استقر فؤاد نعيم اخيراً مديراً لإذاعة الشرق في باريس منتقلاً من الإعلام التلفزيوني والصحافي الى الإعلام المسموع. وخلال ترؤسه وإدارته تلفزيون لبنان سعى فؤاد نعيم الى احياء أقدم المؤسسات التلفزيونية في لبنان والعالم العربي لكنه لم يلبث ان اصطدم بمفهوم المؤسسة الإعلامية الرسمية التي اصر على جعلها مؤسسة عامة. وكان من قبل اسس القسم العربي الجديد ل"وكالة الصحافة الفرنسية" في العاصمة القبرصية نيقوسيا. على ان فؤاد نعيم في كل مسؤولياته الإدارية ظل ذلك الفنان والشاعر، ذلك المخرج والرسام الذي جعل من العمل الإداري عملاً إبداعياً. فؤاد نعيم الصحافي هو نفسه فؤاد نعيم الشاعر والمخرج والرسام والإداري، صاحب الثقافة العميقة والرؤية الشاملة. اي تصور يحمل فؤاد نعيم عن العمل الإذاعي انطلاقاً من موقعه كمدير لإذاعة "الشرق"؟ وأي علاقة تجمع بين الفنون المتعددة التي تنقل وما برح يتنقّل بينها؟ بدأت شاعراً بالفرنسية ثم انتقلت الى الإخراج المسرحي، ثم الى الإخراج التلفزيوني فالصحافة فالمسرح فالتلفزيون فالصحافة فالرسم فالإذاعة هل انت في حال من البحث عن شخصية لا تزال كامنة فيك؟ - أعتقد اننا جميعاً نبحث باستمرار عن شخصية او عن شخصيات متعددة كامنة فينا ومن جهة اخرى، الأمر يخضع للضرورة والمصادفة كما يقول عالم فرنسي بيولوجي. تنقلت بين وضعيات متعددة وكان الدافع الرئيس لهذا التنقل هو المصادفة والضرورة. البحث عن الشخصية الأخرى قد يكون داخل المجال الإبداعي او الفني الواحد. هكذا يبحث الرسام او الشاعر طوال حياته عن ذاته. التنقل من مكان الى آخر، اثناء الأداء اليومي والمهني هذا لا يعني بحثاً مكثفاً أكبر، قد يكون العكس صحيحاً. في النهاية كل هذه الأنشطة خارجية، والذات تتفرج عليها وتراقبها، كما لو انها ليست معنية، لذلك تبقى هناك مسافة بينك وبينها تحميك وتساعدك. ماذا عن تجربتك التلفزيونية في تلفزيون لبنان، خصوصاً أنك استطعت ان تحدث ثورة في التلفزيون "الرسمي"؟ - اول أمر قمت به، عندما عملت في التلفزيون اصدرت تعميماً سميت من خلاله تلفزيون لبنان ب"التلفزيون العام" وليس التلفزيون الرسمي، وخلال فترة عملي في التلفزيون اي الثلاث سنوات كنت اتحرك من خلال هذه التسمية، اي التلفزيون العام. وهذا يعني ان التلفزيون ليس بوقاً لنقل الرسالة الرسمية بل هو مفتوح لكل الناس، وقد تحررنا الى حد كبير مما يسمى التوجيه الرسمي بسبب عدم تدخل رئيس الوزراء رفيق الحريري وقتها في سياسة التلفزيون. الرؤساء الآخرون تدخلوا في شكل محدود في عمل التلفزيون، وعلى اعتبار انهم يعتبرون انه مؤسسة مفتوحة للجميع، كان كل تدخل من قبل احد الأطراف يلغي تدخل الطرف الآخر وهكذا. لقد استطعنا خلال فترة زمنية قصيرة ان ننهض بالتلفزيون الذي اصبح في الدرجة الثانية، بعدما كان في المرتبة العاشرة، بكل أسف هذا العمل يتطلب المال. اشير هنا على سبيل المثال ان الدولة في فرنسا تصرف على التلفزيون 70 في المئة من موازنته وتترك 30 في المئة للإعلانات حتى يظل هناك مجال للمنافسة ولئلا يتحول شيئاً مملاً. كي يظل تلفزيون لبنان ذا استقلالية بالنسبة للمعلن ويكون منتجاً في الوقت نفسه المفروض ان تدفع الدولة جزءاً من تكاليفه وتترك البقية للإعلانات. لم نستطع الوصول الى هذه الصيغة. في النهاية الدولة لم تتحمل كل المصاريف، حينما تنظر كم يعطيها هذا التلفزيون مقارنة مع التلفزيونات الخاصة. وفي ذهن الدولة انه إذا تمت تغطية انشطة المسؤولين فهذا يعني انتهاء مهمة التلفزيون، في الوقت الذي هو اداة انفتاح وثقافة وتربية... الخ. بكل أسف هذا ادى الى "موت التلفزيون" الصيغة التي يبحثون عنها الآن بأن يدخلوا شريكاً من القطاع الخاص كي يستلم البرامج، ويتركوا البرامج السياسية كالأخبار وغيرها في يد الدولة، هذه الصيغة متخلفة. عملياً ليس هناك شيء اسمه برامج سياسية، وأخرى غير سياسية برامج تثقيفية وأخرى غير تثقيفية. إذا ما عملت مؤسسة فاشلة فلن يحضرها ويشاهدها الناس بسبب برامجها السياسية والعكس صحيح. هل تعني ان سياسة التلفزيون لا يمكن ان تكون مجزأة بحسب انواع البرامج. - نعم، التلفزيون هو كل لا يتجزأ. ونحن نعرف انه حتى ضمن مجال التسويق لا يقال هناك برنامج يسوّق في شكل جيد بل هناك شاشة تسوّق في شكل جيد. اما ان تكون الشاشة ناجحة وإما ان تكون فاشلة قد تكون بعض البرامج داخل الشاشة انجح من غيرها. لكن لا يمكنك ان "تُمشّي" برنامجاً ناجحاً ضمن شاشة فاشلة. ولا يمكنك ايضاً ان توصل رسالة سياسية - كما هو في ذهن المسؤولين السياسيين في بيروت - في برنامج سياسي واحد ضمن شاشة فاشلة. أجد ان الصيغة التي يبحثون عنها - أتمنى ألا يصلوا الى اتفاق حولها - هي صيغة غير ملائمة اطلاقاً لتلفزيون عام، يجب ألا يكون في لبنان تلفزيون رسمي بالمعنى الرسمي بل يجب ان يكون هناك مواقف رسمية ينقلها التلفزيون العام. التلفزيون الرسمي لم يعد موجوداً حتى في دول العالم الخامس. انت اليوم مدير اذاعة الشرق في باريس، ما هو التصور الجديد الذي تحمله لهذه الإذاعة، وإلى من تتوجه؟ - إذاعة الشرق في باريس كانت حتى اليوم جزءاً من إذاعة الشرق التي تحمل على عاتقها مهمة هي تغطية الأخبار وهي عموماً موجهة الى المستمع في بلدان المشرق. تبين - في النهاية - ان مستمع اذاعة الشرق في باريس هو الفرنسي المتحدر من اصول عربية وتحديداً دول المغرب العربي وهؤلاء يشكلون 98 في المئة من عدد المستمعين وهذا الأمر ادى الى وجود برمجتين: الأولى موجهة الى المستمع في المشرق عبر اذاعة الشرق في بيروت والثانية موجهة الى المستمع المتحدر من اصل عربي عبر اذاعة الشرق في باريس وهي تأخذ في الاعتبار المستمع الفرنسي والأوروبي كوننا نغطي سويسرا ولندن وعدداً من المدن الفرنسية. وكما تعلم عدد الفرنسيين من اصل عربي هو زهاء 6 ملايين، ما معناه مليونا ناخب. نصف هؤلاء لا يتكلمون اللغة العربية. ويشكل الإسلام الدين الثاني في فرنسا قبل البروتستانتية واليهودية. أدخلنا اللغة الفرنسية ضمن برمجتنا الجديدة. 35 في المئة من برامجنا الآن فرنسية. وسترتفع هذه النسبة لتصبح 50 في المئة من البرامج، وبذلك يمكننا ان نصل الى المستمع ذي الأصول العربية. من جهة اخرى، نعلّم هذا المستمع عبر برامجنا الأخرى لغته، ايضاً ثمة مهمة اخرى وهي جزء من مسؤولياتنا حتى وإن تكن غير موجودة في النص، هي نشر الإسلام المعتدل او تقديم صورة اخرى عن الإسلام تخالف الصورة المعتاد رؤيتها عبر القنوات الأخرى، اضافة الى ذلك ملقى على عاتقنا مهمة جعل هذا المستمع يتواصل مع ثقافته العربية حتى عبر الفرنسية، شعارنا الجديد هو: "إذاعة الشرق صلة الوصل بين الشرق والغرب". وهذا من شأنه تحويل الإذاعة الى منصة حوار شرقي - غربي ما يخدم حوار الحضارات وليس صدامها. هل تستطيع الإذاعة ان تواجه السيطرة التلفزيونية في هذا العصر، وكيف عليها ان تنافس التلفزيون؟ - فوجئت بنتائج الدراسات التي قامت بها مؤسسات فرنسية كبرى عن هذا الأمر. فقد تبين في اوروبا في شكل عام وفي فرنسا خصوصاً ان عدد مستمعي الإذاعات هو نفسه عدد مشاهدي التلفزيون. ففي عام 2000 هناك اكثر من 83 في المئة من الفرنسيين يستمعون الى الراديو ما معناه ان كل واحد منهم يستمع قرابة ثلاث ساعات وأربع عشرة دقيقة كل يوم. ايضاً ثمة 83 في المئة تشاهد التلفزيون بما مقداره 3 ساعات وأربع عشرة دقيقة. لا بل تقول الدراسات ان الإعلانات في فرنسا عبر الإذاعة زادت 3 في المئة في العامين 2001 و2002، في الوقت الذي لم تزدد في التلفزيون. ايضاً هناك ما يسمى في الدراسات الميدانية ب"الدرايفينغ تايم" اي الوقت الذي يمضيه الناس وهم يقودون السيارات والذي لا يمكنهم فيه مشاهدة التلفزيون، إذ يتنقل الناس كثيراً الى أماكن عملهم البعيدة وهم يستمعون في هذا الوقت الى الإذاعات. نعم يمكن الإذاعة ان تنافس التلفزيون وهذا انا شخصياً ما تفاجأت به. تنقل إذاعة الشرق خطبة الجمعة من المسجد الحرام وتستضيف شخصيات فكرية ودينية تشرح علاقة المسلم بشعائره كيف تسهم الإذاعة في نشر الإسلام المعتدل؟ - هذا الأمر هو احد مطالب مستمعينا، فالفرنسيون العرب بحاجة الى التواصل مع شعائرهم وطقوسهم الدينية، والجانب الديني داخل الإذاعة هو جزء من مهماتنا، وتبين لنا انه إذا ما اخطأنا ونسينا وضع الإشارة الصوتية للصلاة نجد ردود فعل عدد كبير من المسلمين الذين تعودوا على الإشارات الصوتية للصلاة من اذاعة الشرق، وهم يطلبون اذاعة الإشارة الصوتية الخاصة بوقت الصلاة. ولنفترض ان جزءاً من المستمعين الى إذاعة الشرق هم من المسيحيين، فإن الإسلام هو جزء من تراثنا. وهذا ما يجعلنا نغطي وننقل صلاة الجمعة من المسجد الحرام أو من جامع باريس الكبير. اضافة الى ذلك نحن نستضيف شخصيات وباحثين ورجال دين يشرحون الإسلام في شكل منفتح ومعتدل بعكس التيارات السلفية التي جعلت السلطات الفرنسية "تنقز" منها. يلاحظ منذ بدأتم العمل في الإذاعة تنوع البرامج وتعددها. حينما تعدون البرامج هل في ذهنكم المستويات الثقافية للمستمعين؟ - قمنا بدراسة ميدانية في الشهر الأول كي نحدد برمجة الشهر الثاني. جمهور اذاعة الشرق في باريس يبدأ بالعامل وينتهي عند الديبلوماسي. عدد العمال في فرنسا اكبر من عدد الديبلوماسيين. نحن نأخذ في الاعتبار كل هذه الجماهير وهذا ما يسمى اذاعة "جينراليست" مع ما تتسم به من نقاط قوة ونقاط ضعف ايضاً. في الفترة الصباحية مضطرون ان نأخذ في الاعتبار تقديم الموسيقى والبرامج الخفيفة التثقيفية بالمعنى العملاني للكلمة طبياً واجتماعياً موجهة الى السيدات العربيات في المنزل. تسبق هذه الفترة نشرات اخبار وبرامج ثقافية موجهة الى شريحة اخرى، تمتد من السادسة حتى التاسعة، ويستمع الى هذه الفترة الديبلوماسي والمثقف والطالب ورجل الأعمال... الخ، في منتصف النهار نقدم فترة اخبارية تصل الى جمهور كوادر فكرية وعملية...