هل انتهى زمن الراديو؟ سؤال يطرح نفسه على امتداد خريطة الإعلام حول العالم، بعدما وصلت صحون الالتقاط المتلفز إلى مجاهل الأدغال وأعالي الجبال وأقاصي الصحارى، وباتت الشاشة الصغيرة محور التلقي الخبري والثقافي و الترفيهي لكل بيت وكوخ وخيمة.«بالطبع لم ينته زمن الراديو»، تقول ناهدة نكد، المديرة الجديدة لبرامج «مونتي كارلو الدولية»، وتضيف: «التلفزيون لم يقض على الراديو، ففي السيارة مثلاً لا تستطيع مشاهدة الشاشة الصغيرة وأنت وراء المقود، ولا يمكن لربة البيت أن تتوقف عن الحركة أمام التلفزيون وهي تقوم بعملها المنزلي. كذلك في وسائل النقل العامة كالسفن و القطارات و الطائرات و حيثما تغيب إمكانات الالتقاط المصوّر، ما زال الراديو حاضراً. ولهذا الحضور قوة إضافية في العالم العربي حيث ربط الراديو ملايين المستمعين بالأحداث الجسيمة خلال أكثر من نصف قرن مضى. وكان البث من المحطات البعيدة، خصوصاً باريس ولندن، متنفساً لمن تاقوا الى الخبر الموضوعي الخالي من الشحن و التعليب و القمع. وليس سراً أن جزءاً كبيراً من هذا الواقع لا يزال قائماً». عرفت «مونتي كارلو» عصرها الذهبي بين مطلع السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي، حين أطلق عليها بعضهم لقب «تلفزيون العرب» بسبب نضارتها و أسلوبها الإعلامي الفذ وتوجهها الى المستمع في حميمية و انفتاح لا سابق لهما في الأثير العربي. وعلى غرار ما يحدث في الإعلام الغربي، بات ل «مونتي كارلو» نجومه ونجماته ممن اشتهروا و انتقلت أخبارهم الى الصحف و المجلات، مثل الراحل حكمت وهبي الذي عرف بفطنته وسرعة بديهته و إتقانه تقليد الأصوات واللهجات، و هيام حموي صاحبة الموهبة الصوتية المميزة و الروح الإذاعية اللطيفة والحِرَفية العالية. ثم سطع نجم سلمى الشماع بلهجتها المصرية المفعمة بالدلال والوداد، ما جعل المستمعين يلحون في طلب صورتها الموقعة عبر البريد... وعرفت «مونتي كارلو» إعلاميين طليعيين استوعبوا الأسلوب الفرنسي وطبقوه عربياً بنجاح، برز بينهم لغويون مميزون كالراحل إدوار (رواد) طربيه، الذي عرف بترجماته البارعة للشعر الفرنسي وببرنامج ثقافي دعاه «والقرطاس والقلم». في زمن هؤلاء و غيرهم... كان الأثير لا يزال بريئاً من هجمة الفضائيات، وكان المتلقي العربي جائعاً الى المعلومة الموضوعية المتجردة. وكانت الأنظمة العربية تضع إعلامها تحت المراقبة والتوجيه، ثم تهرع الى تلميع صورتها عبر الأثير الأجنبي. هكذا تدفقت الإعلانات الرسمية على «مونتي كارلو» على غرار «في رحاب العراق» و «سلطنة عمان» وغيرها، بعضها مباشر يدعو الى زيارة هذا البلد أو ذاك، وبعضها الآخر موضب في برامج موسمية. وسرعان ما انضمت الشركات التجارية الى قافلة المعلنين حتى دور النشر مثل منشورات «عبير» التي روجت لرواياتها الرومانسية من خلال إعلام عن جائزة خاتم ماس دامت شهوراً في مطلع الثمانينات. تاريخياً بدأ مشروع «مونتي كارلو» حين أعلن الجنرال ديغول رغبته في إقامة جسر مع العالم العربي لا يخضع لأي توجيه سياسي بما فيه الموقف الرسمي لفرنسا. جاء ذلك بعد حرب 1967، ولعب هذا التوجه دوراً حيوياً في إعلاء شأن «مونتي كارلو» وتوطيد صدقيتها لدى المستمعين. كان البث في البداية موزعاً بين موناكو وباريس، بحسب اتفاق شراكة جمعهما توكيداً على حيادية الإذاعة. إلى أن بادر راديو فرنسا الى شراء حصة موناكو سنة 1974، ونقل استوديوات «مونتي كارلو» من البيت المركزي للراديو الى مبنى مستقل في جادة ريمون بوان كاريه. استمر البث من هناك حتى أواخر التسعينات حين قررت إذاعة فرنسا الدولية أن تضم «مونتي كارلو» الى مجموعة إعلامها الموجه الى الخارج من طريق دمجها بقناة «فرانس 24» برئاسة آلان دو بوزياك وإدارة كريستين أوكرانت. وكان واضحاً أن «مونتي كارلو» العقود الثلاثة الماضية شاخت وشاب شبابها، فتقاعد بعضهم ومكث بعضهم الآخر لفترات محدودة. المهم أن المشروع بات بحاجة الى مصل جديد على الصعيدين التقني والإعلامي. وعلى هذا الأساس تسلمت ناهدة نكد إدارة «مونتي كارلو الدولية» إضافة الى قناة «فرانس 24». وتقول نكد بثقة وتفاؤل: «صحيح خسرنا جزءاً ملحوظاً من مستمعينا في السنوات التسع الفائتة بسبب اصطدامنا بصعوبات الالتقاط وبعض القوانين المحلية الصارمة. لكننا الآن في صدد تنفيذ خطة متكاملة على صعيدين: الأول تقني يهدف الى إنجاز إرسال أفضل شرقاً وغرباً على السواء، والثاني مهني يتضمن هيكلة إعادة البرامج بما يتماشى مع الدينامية الراهنة في الإعلام الفرنسي. تغطية الأحداث الأساسية أولوية لا غنى عنها. لكن عليها أن تكتسي أسلوباً يعاصر أحدث الإذاعات». في تفاصيل هذه النظرة تذكّر نكد بضرورة تسهيل الاستيعاب لدى المستمع بسرعة ودقة وبساطة: «في الصحافة المكتوبة يمكنك أن تعيد قراءة الخبر، أما في المسموع فلا مجال للإعادة. لذلك نعمل على ابتكار صيغ جديدة مغرية سمعياً. وسنعطي التحقيقات الميدانية حيزاً أوسع و أكثر تنوعاً. سنبني من تحت الى فوق. من الشارع و الحقل و المصنع الى مراكز القرار، وفي الوقت ذاته نحافظ على قيمة التحليل و الكشف الإعلامي». تبدو نكد واثقة بقدرتها على بث روح جديدة في أوصال «مونتي كارلو» من دون أن تقطع علاقتها بالجذور: «بدأت مونتي كارلو شابة وشاخت. نجحت لأنها تمتعت بنضارة وافدة على المشهد الإذاعي العربي. ونحن اليوم نعمل على إعادة تلك النضارة بما أوتينا من تجربة. فالإذاعة لا تزال مسموعة و «فرانس 24» مرئية ومرغوبة بحسب التقارير الأخيرة، فلو دمجنا الخبرتين: المسيرة الطويلة و الحداثة المتجددة و حققنا توجهاً متوازياً نحو المشرق والمغرب لا شك عندي في بلوغ نتيجة مرضية في المستقبل القريب». صحيح أن التفاؤل المقرون بالثقة والإرادة مزيج يذلل الصعاب، خصوصاً حين تكون أدوات التصدي متوافرة، فهل تنتصر نكد في معركتها مع طواحين الأثير؟