لست من الأهمية ان أكتب مذكرات، فأنا لست رئيس دولة، أو قائد جيوش، أو فائزاً بجائزة نوبل في الآداب. ولكن إذا كتبت يوماً ذكريات مختارة، هدفها تسلية القارئ قبل أي شيء آخر، فسيكون للسيد ياسر عرفات فصل فيها. أبو عمار صامد لم يفاجئني وكل من يعرفه جيداً بصموده. وأريد ان أراجع بعض الذكريات معه. غير أنني أمهد لكل ذلك بالقول ان أبو عمار أخطأ في الأردن سنة 1970، وأخطأ في لبنان بين 1970 و1982، وأخطأ مع الكويت سنة 1990، وهذه حقائق، أو وقائع، تابعتها بنفسي، ولن أحاول تغييرها أو الاعتذار عنها وإيجاد المبررات لمجرد ان الرئيس الفلسطيني محاصر، أو لاعتبارات صحبة العمر، وأيضاً حتى لا يطلع غداً من يذكّرني بها. في الرابع من شباط فبراير 1997 كتبت في هذه الزاوية عن المؤتمر السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وقلت: في المساء جلسنا في العشاء الكبير لمجموعة الشرق الأوسط، واخترت مقعداً أمام الرئيس ياسر عرفات، وجلس الى جانبه الزميل جبران تويني من "النهار"، في حين جلس الرئيس حسني مبارك وقرينته السيدة سوزان مبارك الى طاولة مجاورة، وجلس بنيامين نتانياهو وزوجته سارة الى طاولة بعيدة، لم تمنع ان أراه في وجهي باستمرار، ففقدت شهيتي. سألت الرئيس الفلسطيني: كيف سارت المفاوضات كان نتانياهو رئيساً لوزراء اسرائيل، فقال ان العمل الفدائي أهون منها ألف مرة. كان العشاء فخماً من المطبخ السويسري - الفرنسي. وذكّرت أبو عمار بأنه دعاني سنة 1968 الى عشاء "منسف"، أي رز ولبن مطبوخ ولحم، في مخيم الوحدات في عمان، وذكّرته بأنه مضت على معرفتي به ثلاثون سنة كاملة، فقد قابلته للمرة الأولى في مخيم الحسين في عمان سنة 1967، في مكتب لم أعد أذكر هل كان لفتح أو لمنظمة التحرير، وانقلبت الدنيا رأساً على عقب منذ تلك الأيام، وأبو عمار لا يزال يطلب دولته الفلسطينية، ولعله أصبح يراها في أفق ليس بعيداً يبدو أننا رأينا سراباً. ورأت السيدات على طاولتنا أبو عمار يعانقني ويحدّثني فطلبت كل واحدة وساطتي ليوقّع لها على قائمة الطعام. وهو فعل، وعدن يطلبن ان أتوسّط لهن مع الرئيس مبارك. وقبل الرئيس بلطف، ولاحظت ان سيدة واحدة فقط ذهبت الى نتانياهو لتطلب توقيعه. وانتقلنا بعد ذلك الى جناح الرئيس الفلسطيني في الفندق حيث استقبل سيلاً لم ينقطع من الزوار، وتركته الساعة الواحدة والنصف صباحاً، ولا يزال أمامه بعض المواعيد. كان هذا قبل خمس سنوات وأريد ان أعلّق بسرعة على آخر سطرين، فالزوار الذين استقبلهم أبو عمار في آخر الليل، هم من نوع الانصار الذين اخترقوا الحصار الاسرائىلي في رام الله ليعلنوا مناصرتهم السيد عرفات. وبين هؤلاء يهود كثيرون يريدون قيام دولة فلسطينية، ويعتبرون أبو عمار رجل سلام. على كل حال قبل 34 سنة أكلت مع "الختيار" طعاماً أعدّه "الشباب" وليس بينهم "شيف" واحد، وقبل خمس سنوات أكلت معه "ميل فوي دو سومون" و"ستيك أو تروا بوافر". وهو عاد الآن الى ما يعرف ويحب من خبز وجبن وزيتون، وقد تضاعفت شعبيته الفلسطينية والعربية والعالمية. اليوم أكتب من الذاكرة، وأنا على سفر، وليس معي سوى بعض المقالات المخزونة على الكومبيوتر، من السنوات الأخيرة. ووجدت أنني كتبت في الخامس من نيسان ابريل 1999 التالي: ثمة سجال كلامي بين الرئيس عرفات ووزير خارجية اسرائيل آرييل شارون، فالأول يقول ان قرار التقسيم قائم، والثاني يقول انه لاغ وباطل. وفي الثامن من تشرين الثاني نوفمبر السنة ألفين كتبت محذراً من خسارة ايهود باراك الحكم وفوز شارون، وقلت: نتانياهو كاد ان يدمّر العملية السلمية خلال ثلاث سنوات عجاف له في رئاسة الوزارة بين 1996 و1999، وهو سيئ بالمطلق، ومع ذلك فمجرم الحرب آرييل شارون أسوأ منه. اقترح على القارئ القادر ان يقرأ سيرة حياة شارون في كتاب بعنوان "شارون قيصر اسرائىلي" من تأليف اوزي بنزمان، فهو يدينه كسياسي وعسكري وانسان. واذا كان القارئ غير قادر فإنني اكتفي بواحدة من مقابلات صحافية كثيرة أجراها شارون بعد زيارته الحرم الشريف، أو تدنيسه له، في 28 ايلول سبتمبر الماضي، ما أطلق انتفاضة الأقصى. هو قال ان جبل الهيكل لليهود... ووصف أبو عمار بأنه "قاتل نساء وأطفال"، وهي تهمة فرويدية خالصة، فالقاتل ينقل صفاته الى ضحيته، وشارون متهم بقتل النساء والاطفال من قِبْية الى صبرا وشاتيلا، وبينهما قتل الجنود المصريين في سيناء صَبرا. اليوم لا يفاجئنا أبو عمار بصموده، كما لا يفاجئنا شارون بجرائمه، وبزيادته قتل الاطفال والنساء في مخيم جنين على قائمة ضحاياه الكثيرين. معرفتنا جميعاً، وبمن فينا أبو عمار، بجرائم شارون هي التي جعلتني أكتب في أول شباط فبراير من السنة الماضية، من دافوس منتقداً الخطاب الناري الذي ألقاه أبو عمار، وحمل فيه على ايهود باراك وحكومته. وقلت ان الخطاب فاجأ المفاوضين الفلسطينيين كلهم، وحذّرت من وصول شارون الى الحكم. وقد أشرت الى ذلك المقال في 19 كانون الاول ديسمبر الماضي بعد ان تعاظمت جرائم شارون. ما كان أبو عمار يستطيع ان يقبل المعروض عليه في كامب ديفيد، أو واشنطن في مطلع السنة الماضية، أو طابا بعدها، فهو لم يخطئ في عدم التوقيع، وإنما في عدم تقدير أخطار مجيء شارون الى الحكم. وأكمل غداً.