في أول شباط فبراير الماضي كتبت زاوية أسجل هنا الفقرات الأولى منها: لا أذيع سراً اذا قلت ان جميع المفاوضين الفلسطينيين الذين انضموا الى الرئيس عرفات في دافوس بعد طابا، والمسؤولين الآخرين الذين تحدثت اليهم في دافوس أو هاتفتهم في رام الله وغزة، عارضوا الخطاب الناري الذي ألقاه أبو عمار في المؤتمر السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي، أو اعترضوا على لهجته. كان يفترض أن يكون أبو عمار أول المتحدثين في جلسة موضوعها "من صنع السلام الى بناء السلام"، وان يتبعه شمعون بيريز وان يعلق على كلامهما السيد عمرو موسى، وزير خارجية مصر في حينه والبروفسور كلاوس شواب، رئيس المنتدى. وقدم شواب فعلاً أبو عمار، الا ان هذا لم يجد خطابه، فطلب من بيريز أن يبدأ ليتبعه هو. بيريز ألقى كلمة قصيرة مهادنة، وتبعه أبو عمار بخطاب فاجأ الجميع بحدته، وشكا مفاوض من أن الرئيس الفلسطيني استعمل خطاباً قديماً. أبو عمار لم يخطئ في اختيار الخطاب، ولم يخطئ في المعلومات عن فاشية القوات الاسرائيلية، إلا أنه أخطأ في التوقيت، فالخطاب ألحق أذى بإيهود باراك وشمعون بيريز معاً، ما يعني أن المستفيد هو آرييل شارون. ربما كان أبو عمار محتقناً فانفجر، غير اننا نتحدث هنا عن سياسة ومستقبل شعب، لا أعصاب رجل واحد، وباراك "بطل" شارع فردان، وبيريز "بطل" قانا، غير ان شارون "بطل" كل جريمة أخرى. من سيناء الى قبْيَة وصبرا وشاتيلا، وهو اذا انتخب رئيساً للوزراء فسيرتكب مزيداً من الجرائم، مع توقعي شخصياً حرباً محدودة أو عامة اذا تسلم رئاسة الوزارة... ومرة أخرى، فما سبق هو الفقرات الأولى من زاويتي هذه في مطلع شباط فبراير، وأنا لا أعرف نصف ما يعرف أبو عمار أو ربعه أو عُشره، ومع ذلك فقد رأيت ككثيرين غيري الكارثة المقبلة، ولم يرها أبو عمار. غير انني لا أكتب اليوم لأقول "قلت هذا"، وانما عدت الى زاويتي السابقة بعد أن جمعني غداء في لندن مع البروفسور شواب، وهو قال انه لا يزال عاجزاً عن فهم سر خطاب الرئيس عرفات، فقد فوجئ بحدته كما فوجئ بيريز والحاضرون. قلت لرئيس المنتدى الاقتصادي العالمي انني لا أعرف السر أيضاً، والمهم ان ابو عمار أخطأ، ولو انه يدفع الآن الثمن وحده لهان الأمر غير ان شعبه يدفع معه. لا أريد أن أحمّل الرئيس عرفات المسؤولية وحده، فباراك بقي يعطل المفاوضات عند قتل كل مستوطن حتى داهم الوقت الجميع، وخسر هو الانتخابات. مع ذلك، فما يحزن بالنظر الى كل المآسي اللاحقة ان الطرفين كانا أكملا المسيرة تقريباً، ولم يبق سوى أصغر التفاصيل، وقد كتبت في حينه: يستطيع القارئ أن يقول ما يشاء عن رئيس وزراء اسرائيل الحالي، وسأؤيده أو أزيد عليه، إلا أن هذا لا ينفي أن باراك وصل مع الفلسطينيين الى نقطة لم يصل اليها معهم رئيس وزراء قبله، بمن في ذلك اسحق رابين وبيريز، ولن يصل اليها شارون قطعاً. والخلافات المعروفة على الحرم الشريف وعودة اللاجئن حالت دون الوصول الى اتفاق، غير ان الطرفين اقتربا الى درجة البحث في أدق التفاصيل، بما في ذلك وضع 18 منزلاً بين الحي اليهودي والأرمني، تقف في وجه معبر من حائط المبكى والحي اليهودي الى القدس الغربية... مرة ثالثة أو رابعة، الفقرة السابقة من مقال في بداية السنة، وأنا أكتب الآن في نهايتها وأسأل نفسي: أين كنا وأين صرنا؟ قصة البيوت الثمانية عشر في الحي الأرمني صحيحة، فقد كنت وأصدقاء في جناح الرئيس عرفات في أحد فنادق دافوس، وزاره رئيس كرواتيا ستيبان ميزيش، فانتحينا جانباً مع الدكتور صائب عريقات الذي كان وصل لتوه من طابا، وهو عرض علينا خرائط مفصلة عن القدس، والمفاوضات على كل شبر من أرضها، وشرح ان هناك اقتراحاً لربط حائط المبكى والحي اليهودي بمعبر في الحي الأرمني الى القدس الغربية من طريق هدم هذه البيوت والتعويض على أصحابها. أخونا صائب في قلب الحدث، ولا يضاهي قدرته سوى معرفته بالتفاصيل، وهو فوجئ بخطاب أبو عمار، وأذكر انني كنت أجلس في الصف الثاني من القاعة، وقام الدكتور صائب عريقات من أمامي، وهمس في أذن الرئيس الفلسطيني ليرجوه أن يخفف من حدة لهجته، وقد فعل أبو عمار ذلك في معرض رده على الأسئلة. وكنت بدأت زاوية اليوم بفقرات مما كتبت في مطلع شباط عن ذلك الخطاب، غير انني في اليوم السابق كنت علقت بسرعة على الخطاب قبل أن أعود اليه بالتفصيل في أول شباط، وقلت حرفياً كالعادة: ألقى أبو عمار خطابه الناري بعد الظهر، ورأيته في جناحه في المساء فاستقبلني فاتحاً ذراعيه وهو يقول: "كده تتركوني وحدي. لا أحد يساعدني". أبو عمار لم يكن بحاجة الى مساعدة، بل الى "فرملة". البروفسور شواب قال لي الاسبوع الماضي ان ابو عمار يريد أن يحضر مؤتمر السنة المقبلة في نيويورك، ثم سألني ان كان سيستطيع الحضور. ولم أجب لأننا وصلنا الى وضع يقرر فيه شارون ان كان أبو عمار يسافر أو يبقى.