نتساءل، ويتساءل معنا الكثير من العرب الذين أصابهم فجر يوم الثاني من آب اغسطس 1990 بما يشبه الجنون وهم يرون دبابات النظام العراقي تغزو الكويت وتدمر ثرواتها وبناها التحتية وتشرد اهلها وتعتقلهم وتسوقهم اسرى الى بغداد، نتساءل بعد ما يقارب الاثني عشر عاماً على الغزو، وبعد عام على قمة عمان الدورية او قمة "الحالة العراقية - الكويتية" كما اصطلح على تسميتها وما رافقها من محاولات عراقية للهروب من الالتزامات: ما الذي تغيّر في بغداد وأي "مسّ" إيجابي أصاب قلوب المسؤولين العراقيين وعقولهم؟ بل أي "وحي" نزل عليهم برداً وسلاماً حتى انقلبوا بسحر ساحر الى رسل خير ودعاة محبة وسلام، فيقبلون ما رفضوه وما درجوا على انكاره والالتزام به؟ قد يقول قائل: هي التطورات الدولية أملت على قادة النظام في بغداد مراجعة حساباتهم. وقد يقول آخر: هي المساعي العربية ودقة المرحلة وحراجتها قلبت تعنّت النظام الى تجاوب ومكابرته الى تواضع. لكننا في مواجهة هذا التفسير او ذاك نجد انفسنا مدفوعين الى قول كلمة "لا" كبيرة، ليس رغبة في الرفض ولا "حباً" في خربطة الأمور والتخندق في دائرة الاتهام والتشكيك، بل حرصاً على ان تأتي القرارات والمواقف العراقية الاخيرة والمطلوبة نتيجة اقتناع راسخ لدى قادة النظام العراقي ورموزه بأن سياساتهم التي اتبعوها طوال ما يزيد على عقد كامل لم تؤد سوى الى مزيد من الدمار والويلات والمعاناة للشعب العراقي الشقيق. لا نريد ان ننكأ جراحاً تحرص الكويت على التئامها خدمة لمستقبل الاجيال العربية، ولمستقبل الشعبين العراقيوالكويتي بالتحديد، ونحن نستعرض شريط المواقف لرموز النظام العراقي، من رأسه الذي اعتبر وهو يحتفل بيوم "النداء العظيم" في الثاني من آب من كل عام "ان الكويت طفل عاق تعرض لصفعة"، الى منظّره طارق عزيز الذي قال: "ان الكويت تاريخياً هي جزء من العراق وأن العراق قد اطلق الاسرى الكويتيين" عندما كان هو وزيراً للخارجية، الى وزير خارجيته ناجي صبري الذي قال في الخريف الماضي بالفم الملآن: "لن يوجد طفل عربي يعتذر للكويت". من حقنا ان نتساءل هنا: ألم يساهم ذلك في بث الاحقاد في نفوس ابناء الشعب الكويتي العربي عموماً؟ ثم، ألم يكن الاحتفال بذكرى الثاني من آب ضرباً من المكابرة وتزييف الحقائق، والاساءة الى مشاعر الكويت؟ ألم يكن الاحتفال كذلك بيوم السادس والعشرين من شباط فبراير على انه يوم الانتصار العظيم في "أم المعارك"، بينما هو يوم اسود في تاريخ العراق حين لاقى جيشه الأمرّين نتيجة التعنّت والسياسة الخرقاء؟ أسئلة نوردها لتكون عبرة ودافعاً لتغيير حقيقي يقلب الصفحة السوداء في تاريخ العلاقة بين البلدين ويضع حداً للشطط والمكابرة اللذين لم يكونا يوماً في مصلحة العراق. ان الكويت، البلد الصغير الذي اعتدي عليه واستبيحت ارضه وممتلكاته وشرّد أبناؤه، وعلى رغم ما اصابها من ظلم على يد "الشقيق العراقي الأكبر"، لم تكن يوماً ضد الشعب العراقي ولن تكون، ولطالما اكدت مواقفها المعارضة لضرب العراق وتجزئته وتقسيم شعبه، ولطالما أبدت تسامياً فوق الجراح وليونة في المواقف تجلّت بوضوح في ورقتها التي قدمت الى قمة عمان وتحولت الى ورقة خليجية ومن ثم عربية، اكدت من خلالها انها لا تريد سوى إقراراً من العراق يطمئنها الى عدم تكرار ما حدث عام 1990، ومبادرة "شجاعة" بإطلاق الأسرى والمرتهنين من ابنائها. ان ما يؤلم الكويت، على رغم ترحيبها بالإيجابية التي اتسمت بها المواقف الأخيرة للعراق، ان هذه المواقف قد تأخرت كل هذه السنوات على رغم المساعي التي بذلها اكثر من طرف عربي. لكن ان تأتي هذه المواقف متأخرة خير من ألا تأتي ابداً. والمطلوب الآن من بغداد إعادة بناء الثقة مع الكويت، وهذا لن يكون إلا بخطوات جريئة وشجاعة تطمئن الكويت الى صدق النيات العراقية، فيباشر العراق بتنفيذ ما نصّت عليه الصيغة التوافقية، من تعاون سريع ونهائي مع يوري فورنتسوف مسؤول ملف الأسرى وممثل الأمين العام للأمم المتحدة لمعالجة هذه القضية الانسانية، الى اعادة الممتلكات ووقف الحملات الاعلامية ووقف حملة الاتهامات والتشكيك التي تنضح بها مناهج التدريس العراقية من مزاعم عن تبعية الكويت للعراق، لأن ذلك لا يؤسس لأي علاقة مستقبلية سليمة ولا يساهم بفتح صفحة جديدة. يحدو الكويت أمل كبير بأن ترى أقوال العراق وقد تحولت الى افعال، وهي ستتابع، ومعها مؤسسة القمة العربية وجامعة الدول العربية والدول العربية، ما سيصدر عن بغداد من مواقف وإجراءات تدفع اكثر الى انفراجات وإلى ازدياد رقعة الاقتناع لدى الكويتيين، إذ لا يخفى على احد ان الكثير من الكويتيين متشككون وغير مقتنعين بصدقية هذا النظام نظراً الى ماضيه الحافل بالخروقات والتنكر للمواثيق والمعاهدات. والكل يتذكر وعود صدام حسين للقادة العرب بأنه لن يغزو الكويت، وهو لم يغزُ الكويت ويحتلها فقط بل حاول شطبها. والكل يتذكر تمزيق صدام حسين "اتفاق الجزائر" في شأن تسوية الخلافات بين العراقوإيران على شط العرب ثم غزوه وحربه مع إيران لثمانية أعوام. أمام العراق طريق طويل شائك من الاستحقاقات والاختبارات لنرى هل سيحتفل بذكرى غزوه للكويت وذكرى جلائه عنها؟ سنراقب ونتابع هل ستتوقف صحف "بابل" و"القادسية" و"الثورة" عن تسفيه الكويت ومهاجمتها؟ سنتابع تصريحات كبار مسؤوليه الذين طالما شككوا بالكويت وجوداً وحدوداً وتطاولوا على شعبها وقادتها وحكامها. قبل ان نطوي الصفحة السوداء بين الكويتوالعراق، على بغداد ان تقوم بمبادرة جريئة تتضمن ترجمة لقرارات قمة بيروت التي اثبتت الديبلوماسية الكويتية خلالها نجاحاً وثقة بالنفس، إذ أقنعت الكويت شقيقاتها الدول الخليجية اولاً ثم بقية الدول العربية بصواب نظرتها وأحقيتها، فتم تبني الموقف الكويتي الذي يطمئن العراق كلياً الى استقراره وعدم ضربه وتقسيمه، بل ورفع العقوبات عنه، في مقابل تعهد عراقي بعدم تكرار ما حدث من غزو واحتلال وتنكيل. ولعل هذه المواقف تشكل سبيلاً الى طي صفحة الماضي الحافلة بالمآسي، وحافزاً الى مزيد من خطوات بلسمة الجراح ورأب الصدع التي يحرص عليها المسؤولون الكويتيون. ويبقى الأمل في التنفيذ حتى لا تصبح كل هذه الأماني سراباً يحسبه الظمآن ماءً. * مدير المكتب الإعلامي الكويتي في بيروت.