تقول لغة العقل والحوار والمنطق إن أي نظام يرتكب أخطاء ويشن حروباً ويعتدي على الآخرين وينفذ سياسة مبرمجة في الضم القسري والاحتلال لأحد جيرانه، انه ينبغي على ذلك النظام، الذي يستمر بعد أكثر من ثلاثة عقود على وصوله الى سدة الحكم في العراق بجر الويلات والكوارث والحروب والنزاعات ويقود شعبه من كارثة الى اختها، أن يتعلم ويستفيد من الدروس ويتصارح مع نفسه، ويخفف المعاناة عن شعبه، ويوقف لغة التشنج والخطب العنترية. لكن النظام في بغداد يأبى إلا أن يكابر ويستمر بسياسته في مقارعة طواحين الهواء وحصاد الهشيم. فالنظام العراقي لا يزال يحتفل في كل 26 شباط فبراير بيوم أم المعارك الخالدة، وفي كل 2 آب اغسطس بيوم النداء. في الذكرى الحادية عشرة لجريمة العصر، بعد أحد عشر عاماً من غزو الكويت واحتلالها وضمها وشطبها وتحويلها الى "المحافظة الرقم 19" وبعد طعن التضامن العربي في الصميم ودق اسفين في نعش العلاقات العربية - العربية، يبقى صدام حسين على حاله في سلوك حافة الهاوية: يستمر في نهجه الذي أبسط ما يقال عنه انه غوغائي ومن دون طائل، يقتات على معاناة شعبه، ويحول العراق بوضوح الى جمهورية رعب وخوف، وتم تنصيب نجله قصي عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث ونائباً لرئيس المكتب العسكري في القيادة القطرية، فبات من المؤكد تحول العراق الى جمهورية وراثية حيث يهيَّأ قصي مجرم الحرب لخلافة والده. وهكذا ستنتقل دفة الحكم من مجرم حرب الى مجرم حرب آخر. تبقى منطقة الخليج العربي على الدوام معرضة لعدم الاستقرار بسبب غياب العناصر الأساسية لتوازن القوى، حيث تسيطر على الدول المؤثرة فيها، خصوصاً العراق وايران، توجهات للهيمنة والمغامرات مستفيدة اما من الشعور بغياب عنصر الردع لدى الطرف الآخر، أو لغياب الردع بشكل فعلي. ويتحول المثلث الخليجي المكونة، أطرافه من العراق وايران والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، الى مثلث للتوتر وعدم الاستقرار بسبب بروز نزوات ومغامرات وغياب توازن القوى وانعدام المساءلة والمحاسبة. المعضلة الثانية في نظام الأمن الخليجي هي عدم قدرة الدول الاقليمية الثماني، وهي دول مجلس التعاون الخليجي الست والعراق وايران، على تكوين نظام أمني اقليمي مقنع يمكن الاعتماد عليه للاستقرار والالتفات نحو التنمية، يكون التعاون والتبادل التجاري والاستثمارات محركه ودفاعه. فكيف يمكن تأسيس نظام أمني اقليمي في المنطقة بالاعتماد على الأمن المستورد الذي دفع اليه صدام حسين نفسه باعتدائه على الكويت ورفضه الانسحاب مما كرس نظاماً أمنياً جديداً بقيادة الولايات المتحدة؟ ثم ان النظام الأمني الحالي يعتمد على ركيزة اساسية تجعل من منطقة الخليج العربي حالاً استثنائية، لأنه يعتمد على مبدأ الإقصاء والحذف Exclusion لأهم وأكبر دولتين، عسكرياً وبشرياً، العراق وايران، ولا يشركهما في الترتيبات الأمنية،- بدلاً من مبدأ الضم Inclusion. وطبعاً، حتى يتم ذلك، على العراق وايران أن يغيرا من سياستهما. وبالنسبة الى العراق يجب تغيير النظام القائم الذي أثبتت السنوات الإحدى عشرة الماضية أنه غير قابل للتأهيل أبداً، ولا يمكن للكويت ان تقبل بذلك، كما قال النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد في مقابلة مع صحيفة "الحياة" قبل أيام: "نحن لسنا مستعدين للمصالحة مع هذا النظام الذي ما زال يكرر التهديدات والشتائم نفسها لنا، ولكن اذا تبدل النظام الحالي بآخر يختلف عنه يتفاهم معنا ونطمئن اليه سنكون أول من يمد يدنا اليه، لأننا بذلك نمد يدنا الى جيراننا، الشعب العراقي الذي يعاني من النظام الحالي قبل غيره". وهذا ما يؤكده الكاتب العراقي المعارض عبدالحليم الرهيمي الذي يطالب بتغيير النظام ومحاكمة أركانه. بعد أكثر من عقد على جريمة النظام العراقي واعتدائه الصارخ على الكويت العربية الشقيقة التي وقفت معه وأيدته وشدت من أزره، وكانت مخزوناً يفيض عروبة وعطاء من دون منّة، وكانت ولا تزال بحق بلاداً لكل العرب، من المنطقي بعد كل هذه السنوات أن يبدأ هذا النظام بخطوات تعرف ب"خطوات بناء الثقة" حتى يثبت تراجعه عن خطئه حتى لا أقول خطيئته. خطوات بناء الثقة هذه محاولات تقوم بها كل الدول التي لديها ماض مشين وسيئ لتثبت للطرف الآخر الضحية نياتها الأحسن وتراجعها عن مواقفها السابقة: الاعتذار العلني والصريح للكويت وللشعب الضحية، الإفراج عن الأسرى والرهائن الكويتيين ورعايا دول أخرى يتجاوز عددهم 600، تسليم المسروقات الكويتية والممتلكات المنهوبة التي سرقها النظام العراقي وتشكل جزءاً من تراثنا وتاريخنا، وتقديم التعويضات للمتضررين. إضافة الى النيات، وهي أهم نقطة في استمرار النظرة والموقف الكويتي المتحفز من النظام في بغداد، هناك خطب النظام وتصريحاته وخطابه السياسي وما تنشره صحفه وأجهزة اعلامه تلفزيون واذاعة التي تنضح بالسموم والسباب والاتهامات والتشفي والوعيد والانتقام من الكويت، اضافة الى ان ما يدرس في المناهج التعليمية في العراق مملوء بالتجني وتزييف الحقائق التاريخية والادعاءات والأكاذيب. هذا النهج العراقي لا يؤسس لأية علاقة مستقبلية مبنية على الاعتراف بالخطأ والاعتذار والتوبة وفتح صفحة جديدة. وفي كل سنة يثبت النظام الحاكم في بغداد بما اقترف من كوارث وتسبب في مصائب، وصدّر من أزمات، انه نظام يشكل تهديداً على المنطقة، فيما يعاني شعبه من مرارة هذا الحكم الذي أذاقنا تلك المرارة في الكويت خلال شهور الاحتلال السبعة. فلا يمكن التعايش مع هذا النظام الذي يشكل بؤرة عدم الاستقرار في المنطقة وسبباً أساسياً لإضعاف العرب واستقواء الآخرين علينا. وفي الوقت الذي تستمر الانتفاضة الباسلة في عطائها وتصديها لبطش الاحتلال الاسرائيلي، وبدلاً من رص الصفوف وتوحيد الجهود ووقوف الجميع مع الفلسطينيين والانتفاضة ضد الصلف الاسرائيلي، نجد أنه كلما استعرت الانتفاضة، يخرج النظام العراقي بمفردات ويفتعل تصعيداً ليسرق الأضواء من الانتفاضة وقضيتي فلسطينوالكويت كما يقول كل المسؤولين الكويتيين والعرب. وفي غضون ذلك، يستمر النظام العراقي بتقديم الوعود والقاء الخطب العنترية، فأين الملايين السبعة الذين جندهم متطوعين في خطابه الحماسي لتحرير فلسطين والقدس؟ وأين وعود البليون يورو للفلسطينيين؟ وبينما يتغنى نظام بغداد بخطب عنترية لا تقدم ولا تؤخر، تقوم دول مسؤولة أخرى بتنفيذ ما تعد به من دون منّة أو صدقة ومن دون ضوضاء وعناوين. منذ وقف اطلاق النار بعد حرب الخليج الثانية وصدور القرار 687 أبو القرارات في مجلس الأمن العراق يراهن باستمرار على أمرين: تآكل الحصار عبر اغراءات يقدمها للدول التي تقف معه وتتفهم مصالحه وتسعى الى مصالحها، والتفكك في مجلس الأمن بين الدول دائمة العضوية، وهذا ما بات أكثر من واضح، بحيث يستفيد النظام العراقي من برنامج "النفط للغذاء" لخدمة مصالحه، ويقدم، من جهة ثانية، الجزرة للدول الشقيقة والحليفة التي تقف معه. وهذا ما عبر عنه من دون تردد وزير الدولة العراقي للشؤون الخارجية ناجي صبري إذ ذكر ان بغداد ستمنح الأولوية في تنفيذ عقود المرحلة العاشرة من مذكرة برنامج "النفط للغذاء" الى الأشقاء والحلفاء الذين وقفوا الى جانب الحق العراقي في رفض مشروع العقوبات. هؤلاء الأشقاء لم يلتفت العراق اليهم لولا وضعه الحالي... ولنر موقف بغداد من تلك الدول الشقيقة بعد رفع العقوبات. أما الشق الآخر من رهان النظام العراقي فكان إطالة أمد الحصار بما يخدم أهدافه، مستفيداً من معاناة الشعب العراقي التي يقتات عليها ويسوقها في وسائل الاعلام المختلفة ليضمن تعاطفاً طبيعياً. ونحن في الكويت أول من يتعاطف مع الشعب العراقي في معاناته، وأول من يدعو الى نصرته والتبرع له عبر الهلال الأحمر الكويتي، ويشهد على ذلك ال25 ألف عراقي الذين يعيشون على أرض الكويت معززين، حيث احتلت طالبة عراقية المرتبة الأولى في امتحانات الثانوية العامة لهذا العام التي أعلنت قبل حوالى الشهر. لقد عرَّت قمة عمان النظام العراقي لمتاجرته بقضية العقوبات. ففي حين تسامت الكويت فوق جروحها، في مرونة ديبلوماسية اكتسبت احترام الجميع بقبولها مصطلح "الحال" بين الكويتوالعراق و"الصيغة التوافقية" في اختزال لمعاناة الكويت، وذهبت بعيداً بموافقتها علناً ومن دون مواربة على رفع العقوبات عن بغداد، إذا بالعراق نفسه يستمر في غيه ويهاجم الأسرة الهاشمية في الأردن، ويرفض رفع الحصار عن شعبه لأن العقوبات هي الأوكسجين الذي يبقي النظام العراقي في سدة الحكم. ولم تتوقف بغداد عن المكابرة وجلد الذات عند هذا الحد، فقد رفضت الورقة الكويتية، التي تحولت الى خليجية ثم ورقة عربية بعدما وافقت عليها 16 دولة عربية تطالب برفع العقوبات عن العراق. كما رفضت ما تضمنته الورقة العربية من التزام نحو الكويت، وتأكيد على احترام استقلالها وسيادتها وضمان أمنها ووحدة أراضيها داخل حدودها المعترف بها دولياً، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتأكيد التزام العراق بذلك ودعوته الى اتخاذ السياسات الكفيلة باحترام هذا الالتزام. لم يكتف العراق برفض أبسط المسلمات التي يحض عليها الدين الاسلامي وتكفلها المواثيق الدولية، باحترام الجيرة والسيادة، بل ذهب أبعد من ذلك في قمة عمان، عندما اعترض على الفقرة التي تنص على"تنفيذ العراق الالتزامات كافة تجاه الكويت"، حيث طالب العراق بحذف كلمة "كافة" لتكون الصيغة "تنفيذ الالتزامات" من دون كافة! ثم تصل الصفاقة العراقية الى ذروتها عندما يطالب الوفد العراقي في قمة عمان إضافة فقرة الى الورقة الكويتية تطالب الكويت بالالتزام بأمن العراق!! ان المتمعن في المشهد العراقي بعد أكثر من عقد على جريمة العصر، التي لا نزال كعرب وكويتيين وعراقيين ندفع ثمنها بالدم قبل المال وبالعسكرة والترهيب والتخويف والاحتماء بالأمن المستورد الذي أجبرنا على وجوده حاكم العراق - بعدما كانت الكويت تقود سرب الصقور في السبعينات والثمانينات في رفض وجود قواعد للشرق أو للغرب في منطقة الخليج العربي - ان المتابع للمشهد العراقي والخليجي من خلاله والمشهد العربي الأوسع لا يمكن أن يخطئ في تحميل نظام صدام حسين المسؤولية، كما حدث وآلت اليه الأمور. اما الحديث بعد أكثر من عقد على غزو العراق للكويت واحتلالها عن مؤامرة وتآمر ففيه الكثير من السطحية والسذاجة والضحك على الذقون لتبرير التعنت العراقي والانتقائية والاستفادة من نظام الستاتيكو السائد حالياً، الذي يحقق لفرقاء عدة مصالحهم على حساب الشعوب والأمن والاستقرار والتنمية في منطقة الخليج، والعراق أولها، وفي شكل أوسع في العالم العربي ككل الذي يعيش عصر الانكسار والهوان على أكثر من جبهة وصعيد. انها ذكرى أليمة نسترجعها عاماً بعد آخر. انه الثاني من آب اغسطس ذلك التاريخ الذي يمثل الغدر والخيانة ولا تخف وطأته بسبب ما يجري وما نسمعه، وما سنسمعه هذا اليوم من ترهات وعنتريات وأم المعارك الخالدة ويوم النداء العظيم لتبرير الفجور والعهر السياسي في زمننا العربي الرديء. المؤلم ان نخرج بعد 11 عاماً، بعد أكثر من 4000 يوم، من كارثة العصر من دون عبَر ولا دروس ولا اعتذار ولا شعور بالذنب والأسى والتوبة. ومن يضمن بأن من لا يشعر بوخز الضمير، ولا يشعر بالألم بعد كل ذلك، لن يكرر حماقات ومغامرات فاشلة مميتة كتلك تدفع الشعوب المسكينة المغلوبة على أمرها أثمانها في استهتار كامل بحقوق المواطنين والشعوب؟! * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.