علم كل طفل وشاب تونسي بزيارة والت ديزني والتمتع بمباهج الحياة في لاس فيغاس أو اكتشاف عبق المغامرة في سان سيتي الجنوب أفريقية. ويشعر التوانسة عموماً بعقدة نقص دفينة تجاه مدن العالم وعجائب الدنيا المنتشرة هنا وهناك. فكم هو قاسياً وأنت تحمل وراءك 3 آلاف عام من التاريخ وتغيب عن أرضك الاهرام أو لا يتطلع في سمائها تمثال الحرية شامخاً، وكم تشعر قاماتك الأدبية والعلمية بالبؤس وهي التي لم تتوج ولو مرة بجائزة عالمية في حجم نوبل. وكم هو صعباً وشبابك يشعر بالغبن في غياب مواهب فنية وكروية في حجم زين الدين زيدان أو الشاب خالد لكي لا نقول سابس فيل. ويزداد هذا الشعور حدة عندما تغيب حتى في جبهة الاحتجاج والمقاومة لا "تشي" ولا "جوزي بوفاي" لا "بن لادن" ولا "حزب الله". ويبدو هذا التوق نحو التفرد والعالمية أكثر شدة لدى الشبيبة التونسية في بداية الألفية الثالثة. فالشعارات الموحدة تحت لواء الوطنية وأصالة التاريخ وقدرة الانسان في مواجهة أقدار الجغرافيا وعن بلد التسامح والتعايش الحضاري ربما أقنعت اباءهم ووحّدت صفوفهم في بناء الدولة الحديثة ولكنها أصبحت عاجزة عن استيعاب أحلام الشبيبة والارتقاء الى طموحاتها في زمن العولمة الكاسر. وإلا كيف نفهم تلك الحمى التي لا تزال تعصف بأطفالهم وهم يتابعون آخر انتاجات سلسلة البوكيمون اليابانية وتلك الحالة من الاحتفال الجميلة بالانترنت عموماً ومقاهي الانترنت تحديداً التي أصبحت تزاحم جدياً أهم فضاء تونسي للمجتمع واللقاء المقاهي التقليدية. وكيف نقيم تلك الرغبة الشديدة للطلاب الجدد في الالتحاق بمدارس وجامعات الفنون ومعاهد الرسم، وكيف نحلل ذلك الاقبال المنقطع النظير على مشاهدة آخر إبداعات جماعة المسرح الجديد مسرحية "جنون" والفيلم الحدث للمخرج النيوزيلندي بيتر جاكسون "سيد الخواتم". الا تعبّر الانترنت والرسم وسينما الفانتستيك عن رغبة عارمة في التحليق في العالم الافتراضي وجموح نحو الحرية والسباحة في دنيا الفنتازيا كرؤية مغايرة للأشياء أو ذلك "الحميمي الذي يعلو على السطح ويُقلق" بحسب التعبير الفرويدي. لا شيء يجمع تقريباً بين المزارع التونسي عبدالوهاب بن عياد الذي أصبح اسماً علماً في دنيا المال والأعمال والكاتب البريطاني "جي.آر.آر. تولكين" وثلاثيته المعروفة باسم "سيد الخواتم" باعتبارها نموذجاً مثالياً للأدب العجائبي الفنتازي الحديث بعد "موت" كافكا. تحكي سيرة تولكين بأنه من مواليد 1892، شارك في الحرب الأولى، تزوج في السادسة عشرة من حبيبة عمره ايديث، وتخصّص في علم اللغة وتاريخ الأدب واللغات الشمالية. يوصف بأنه كان انساناً هادئاً، مؤدباً مهتماً بالروتين والتكرار، كاثوليكياً ملتزماً وبروفسوراً نموذجياً لمدة 34 عاماً، يدخّن الغليون ويقود دراجة هوائية في أوكسفورد. كان هناك حبان متقدان في حياته. ايديث والكلمات. يقول بوتكين في مذكراته "العديد من الاطفال يبتدعون لغات خيالية وأنا كنت منغمساً في هذا منذ ان تعلّمت واستطعت الكتابة". فالكلمات هي التي قادته الى محراب العلم والكلمات نفسها أخذته الى معبد الخيال. في صيف عام 1930، كان أول انبثاق لمجرة تولكين السحرية المغلقة. وعلى ورقة فارغة كتب أول جملة "في حفرة في الأرض هناك عاش Hobbit قزم أشعر القدمين...". في بداية عقد الستينات أصبح المهندس بن عياد موظفاً في وزارة الزراعة التونسية، فاكتشف حدود الدولة أمام طموح الشباب العارم. فهم الأمية الحيوية والنفسية للحم على مائدة كل تونسي فابتدع شبكة كبرى تجارية توفر اللحوم البيضاء للجميع أمام الارتفاع الجنوني للأكلة الشعبية الأولى لحم "العلوش" أو الخروف. توسعت شركاته لتناهز ال60 مؤسسة وال10 آلاف فرصة عمل لكنه لم يشاهد يوماً يصرف أحدهم تعسّفياً، فقطع الأرزاق من قطع الأعناق. عندما تلمع احدى مؤسساته تصطدمك لافتة "ممنوع التدخين" وتسمع حكايات عدة من هوسه بالتفاصيل الصغيرة. ذات صيف من عام 1988 كتب في أعلى الصنحة "هناك في أعلى الهضبة وبالاستعانة بجلد ثور بنت عليسة صديقة تونس، ومن أعالي صور اللبنانية الى أحلام الغزاة والرواد الفاتحين عاش هناك انسان لا يزال معلقاً ما بين السماء والأرض باحثاً عن هوية وتائقاً نحو العالمية...". لم يعرف تولكين ماذا يفعل بعمله الضخم اذ يقول لقد "انتجت حكاية الرومانسية طويلة جداً، معقدة..." وفي النهاية فان القصة الأسطورية تجزأت الى ثلاثة أقسام. انتظرت القصة طويلاً ليفكر المخرج جاكسون في تحويلها الى السينما. ثم يقطع الفيلم الى ثلاثة أقسام أو افلام تعرض على مدى ثلاث سنوات 2001، 2002 و2003 بدءاً ب "سيّد الخواتم". واختيرت احدى الجزر الجميلة في نيوزيلندة لتكون مسرحاً للأحداث وتجسيد عالم "الأرض الوسطى" بأكبر قدر ممكن من رؤى تولكين وروحه. في الوسط تقريباً ما بين العاصمة التونسية وجوهرة الساحل محافظة سوسة وعلى قطعة كانت مملوكة للدولة تمتد على مسافة 5،5 هكتارات، انتظرت "المدينة" 14 عاماً لترتفع أسوارها من تحت الأنقاض. يقول القائمين عليها في حملاتهم التسويقية بأنها مدينة الأحلام حيث لا عين رأت من قبل ولا أذن سمعت. وفي الحقيقة ان هذا الهوس التونسيبالمدينة كفضاء جغرافي وكوعاء لتراثهم الانساني قد تعمّق في عقد التسعينات فانشئت جمعيات المحافظة على المدن التونسية، تشننت اسماعهم ورقصوا طرباً مع لطفي بوشناق وهو يتغنى بباب سويقة" و"شفتك ما نعرفك أين في باب سويتة أو الحلفاوين..." أغلب أعمالهم السينمتاية من "عصفور سطح" للنوري بو زيد الى سلطان المدينة للمخرج المنصف ذويب صورت في زوايا المدينة وأزقتها وحماماتها... ربما فسرت مشاعر الحنين ذلك أو نوعاً من البراءة من عقدة الذنب التي تلاحقهم بعد ما لحق بالمدينة العربية أو العتيقة من اهمال وتلوث وتداعيات سقوط تشاهد بأم العين. ولكن كيف نفهم هذا المنحى نحو الاحتماء بالمدينة وبأسوارها في زمن الانفتاح والعولمة خصوصاً عندما تولد هذه الاعمال الفنية من رواد الحداثة والتفتح عن الآخر، فهل أصبحت المدينة هي الرمز والمعقل الأخير للتوانسة في غربتهم ما بين الشرق والغرب وتمزقهم الحضاري. ارتفعت أسوار "المدينة" في ياسمين الحمامات بهجة عمالها الاشداء. فليس سهلاً ان ترفع جحراً في حجم حجارة الاهرام على مسافة 3 كلم وارتفاع ما بين 8،22 متر. قيل بأنها مدينة عربية اسلامية ذات أفق متوسطي ولكنها حملت في أرجائها شيئاً من اسبانيا المسلمة وحواري سورية ومطاعم لبنان وأسواق تونس وحمامات تركيا ساحة الفناء المغربية وجسور Rampart الجزائر... أبوابها التصقت بذاكرة مدن تونسية من السقيفة الكحلة بالمهدية وباب الديوان الصفاقسي وباب البحر بالعاصمة التونسية. أعادت للساحات ذاكرتها، فهذه ساحة شهرزاد، وأخرى ساحة باب الخير الى ساحة سلطان المدينة. لغة الأرقام تحيلنا على الدهشة ب100 ألف متر مربع مغطاة، 220 دار عربية بالمعمار التونسي وهندسته التي رضعت من العمارة الاسلامية والاضافة الايطالية والمالطية. 17 مطعماً حيث الأكلات بأصناف كل الدنيا من لبنان الى اسبانيا مروراً بالمكسيك. 16 مقهى ومقهى يتيم للانترنت. حمامان واحد للرجال وآخر للنساء بأجواء ألف ليلة وليلة حيث تختلط الموسيقى بالبخور على ايقاع الرقص الشرقي النسائي. مسرح يتسع ل1200 مشاهد وقاعة للسينما ثلاثية الأبعاد. قالوا بأنها مدينة مفتوحة مجاناً للرجال والنساء والأطفال. ولكن تحت أجوائها الظاهرة والأبواب المفتوحة والأسواق التقليدية تكمن العوالم السفلية حيث الكازينو والملهى الليلي الضخم جداً والأهم من ذلك كارتغو لاند مدينة الملاهي المفتوحة للشباب بألعابها ومدن الخيال العلمي والربوات والأفلام التجسيمية الحية لمغامرات القرصان بربروس وحكايات برق الليل التونسية وسارق بغداد.