حين نشر المؤلف ج. ر.ر. تولكين الجزء الأول من ثلاثية "سيد الخواتم" تحت عنوان "رفقة الخاتم"، في سنة 1954 باع من الطبعة الأولى 35 الف نسخة فقط. الجزء الثاني "البرجان" باع 32 الف نسخة، اما الجزء الثالث، "عودة الملك"، فباع 3000 نسخة فقط. ولكن مثل النار التي لم تخمد بعد فاستعرت تحت الأعواد اليابسة، أخذت الثلاثية بالإنتشار بعد سنوات عدة. في العام 1968 بيع منها 50 مليون نسخة. خطة شركة "نيولاين" التي كانت شركة مستقلة الى أن ابتاعتها وورنر هي إطلاق جزء من الثلاثية مرة كل عام وفي وقت محدد هو عيد الميلاد. وقد صّورتها كاملة على مدى نحو 500 يوم بكلفة 400 مليون دولار. الجزء الأول الذي نراه من هذه الثلاثية، "سيد الخواتم: رفقة الخاتم" كلف نحو 80 مليون دولار ومع الدعاية المكثفة له فإن كلفته الإجمالية قد تصل الى نحو المئة مليون دولار. الإتجاه الوحيد المتاح امام هذا الفيلم هو النجاح، لكن ليس على طريقة نجاح الكتاب البطيئة، بل عليه أن ينجح فورياً. والأرقام المرتسمة الى الآن 366 مليون دولار عالمياً بعد ثلاث أسابيع من العرض وقرابة 420 مليوناً متوقعة مع خروج هذه الكلمات تؤكد أنه يسير في الإتجاه الصحيح. مثل كثيرين، حاولت قراءة رواية ج. ر.ر. تولكين الفانتازية لكن حجمها الضخم منعني حينها. لم يكن هناك الوقت لقراءتها. وأنت اذا ما توقفت عند حد معين وغبت عنها فإن عليك العودة الى أول الكتاب لكي تستطيع تذكر تفاصيلها وأسماء شخصياتها الكثيرة. لكن ما يبقى في البال العبارة التي يستخدمها الفيلم في البداية متحدثاً عن خواتم تتيح لشعوب مختلفة بعضها آدمي وبعضها وحوش على هيأة آدميين وبعضها الثالث موتى- أحياء الحكم والسلطة، لكن خاتماً واحداً فقط هو الذي يخضع كل هذه الشعوب ويستبد بها: "خاتم واحد لكي يحكمها كلها. خاتم واحد لكي يجمعها. خاتم واحد ليحضرها وفي الظلمة يطوّعها". رغبة وهذا هو الخاتم الذي يتصارع عليه في الفيلم فرقاء كثيرون يحمله، غصباً عنه، شاب من شعب "الهوبيت" البشري أسمه فرودو ألايجا وود يبدو راغباً في اجتياز كل المخاطر في سبيل الوصول الى المكان الوحيد الذي يمكن له فيه حرق الخاتم وتدميره. فهو خاتم شر وما وضعه أحد في أصبعه الا تحوّل الى مستبد شرير تزول من دواخله كل القيم الإنسانية. فرودو ليس وحده في المهمة، هناك ثمانية أتباع مختلفين يعاونونه في مهمته ويذودون عنه ضد المخاطر الناجمة عن محاولة فرقاء آخرين، بينهم سارومان كريستوفر لي مستنداً الى خبرته الطويلة في أدوار الشر اذ لعب دراكولا أكثر من سبع مرات ودور فو مانشو مرتين على الأقل الذي يريد الحصول على الخاتم بأي ثمن. المغامرات طويلة، والساعة الأولى من الفيلم بطيئة لكن لا يمكن لوم المخرج النيوزلندي بيتر جاكسون عليها. انها الفترة التي يحتاجها لكي يلخص نصف الكتاب في سبيل الوصول الى النصف الثاني لتدخل المغامرة شكلها التشويقي الحاد. في تلك الساعة الأولى يوزع المخرج كل المعلومات المطلوبة لكي لا يبقى في البال اي سؤال مرجعي يعيق الحركة التالية. في هذا النطاق وفي غيره يحقق جاكسون نجاحاً أفضل من ذلك الذي حققه كريستوفر كولمبوس في الفيلم الفانتازي الحديث الآخر "هاري بوتر وجوهرة الفيلسوف" الذي سبق "سيد الخواتم" بالعرض وسجل الى الآن نحو 600 مليون دولار من الايرادات. وهذا بدوره جزء أول من سبعة، لكنها لم تصوّر في وقت واحد كما حدث مع ثلاثية "سيد الخواتم". وميزة تصوير ثلاثة أفلام في فترة واحدة مفيدة في ضمان شخصية واحدة للحلقات كلها. المخرج واحد، كذلك كل فريق العمل والممثلين باستثناء من يفرض عليه الموت في الجزء الأول. وبيتر جاكسون يستفيد كثيراً من كل ذلك، هذا الجزء الأول يقدم مزيجاً من التصوير الطبيعي الفعّال مع التنفيذ الغرافيكي على الكومبيوتر. وبما أن التصوير تم في نيوزلاندا ذات المساحات الشاسعة غير المسكونة، فإن ذلك وحده يضمن خلفية أحداث جميلة وخصبة. لكن في المرات التي كان على الكومبيوتر غرافيكس التدخل، فإن النتيجة لا تسبب سوى المزيد من الإعجاب. العالم الذي تدور الرواية في رحابه عالم قديم يقع على الأرض انما في مكان ناء منها او - اذا شئت - قد يكون كوكباً آخر شبيهاً بالأرض. في الحالين هو عالم فيه الطبيعة ذاتها والشمس والقمر والليل والنهار، باستثناء أن هناك جبالاً شاهقة لها مداخل تؤدي الى عالم داخلي ضخم الحجم ومتنوع التضاريس. في وسطه جسور معلقة، ووديان لا يمكن مشاهدة قعورها، وجدران كهوف قد تهوى أو تغلق على من فيها في اي لحظة، وعلى رغم كل ذلك، فإن سياسة المخرج تجاه هذه المؤثرات هي تركها للإيحاء والخيال، تماماً كما يفعل الكتاب، وعدم فرضها لاعباً أساسياً في الفيلم. بذلك، وعلى عكس ما يحدث في "هاري بوتر"، لا تتولى المؤثرات مهماتها على نحو يعرقل العنصر الدرامي، بل تشكل المحيط الممتزج مع الطبيعة ذاتها. الفترة التي يفترضها الفيلم هي عصر وسيط عندما كان السحر كان لا يزال فرضياً منتشراً وعندما كانت مخلوقات أخرى، غير حيوانات الأرض وبشرها، منتشرة وكانت الحروب تخاض بالسيوف والرماح والسهام المسنونة. يبدأ الفيلم بسرده التاريخي السريع عن تاريخ الخاتم ذي السلطة الكئيبة، وكيف انتقل من يد سورون، سيد الوحوش، الى العنصر الإنساني في موقعة تاريخية حدثت قبل ثلاثة آلاف سنة قبل زمن الفيلم القرن الثاني عشر. في تلك المعركة تم قتل سورون، ووضع القاتل الخاتم، لكن عوض أن يتخلص منه استحوذ عليه وأصبح شريراً بدوره ليفقده لاحقاً ويجده انسان من الآدميين هو بيبلو إيان هولم الذي احتفظ به طويلاً الى أن اكتشفه معه صديقه الساحر غندالف إيان مكيلين فطلب منه التخلي عن الخاتم للشاب فرودو وود الذي سيتحمل مسؤولية التخلص منه في الموقع الوحيد الذي يمكن فيه تدمير الخاتم. نحن محصنون ضد الخيال الرحلة تنقل الى العين مخاطر جسيمة ومغامرات كبيرة ومواقف حاسمة كثيرة. وذلك هو ما تتألف منه السينما الفانتازية التي يصوغها جاكسون على نحو دراماتيكي جيد ومشوّق في معظم مراحله. لكن اذا سألت اي موزع عربي، عن توقعاته التجارية بخصوص الفيلم في منطقتنا العربية، فستجد أنه لا يميل الى التفاؤل كثيراً إذ دلت التجارب السابقة على أننا محصنون ضد الخيال على نحو غريب. العبارة الأكثر تردداً بين الراشدين هي "فيلم جانح الخيال". الكلمة الواحدة الأكثر تعبيراً واستخداماً لوصف مثل هذا النوع من الأفلام عندنا هي: "تفنيص" اي كذب وتدجيل. وهو بالطبع كذلك، لكنه ليس أكثر "تفنيصاً" من معظم الأفلام "الواقعية" الأخرى. والذي يشفع للفيلم هو أنه "تفنيص" جيد الصنع. جمهورنا قد يفوته أن هذا النوع من الأدب أكثر رسوخاً في تقاليد الغرب الأدبية مما هو لدينا، على رغم أن الشرق هو الذي طلع بكتابي "الف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" مئات السنين قبل "هاري بوتر" او "سيد الخواتم" او اي سيل معاصر من الفانتازيا الغربية. الأفلام التي حققت أكثر الايرادات نجاحاً في العام الماضي هي "هاري بوتر" و"شرك" و"وحوش" إذ جلبت مجتمعة أكثر من بليون دولار الى اصحابها. والحال لن تتغير على الأرجح بالنسبة للعام 2002 حيث سيتبوأ "سيد الخواتم" على الأرجح الإيرادات حتى النصف الأول من العام. المقارنة بين الفيلمين "سيد الخواتم" و"هاري بوتر" لا يمكن أن تتوقف عند حدود الأرقام. في الواقع هما ينتميان الى فئتين مختلفتين من الفانتازيا. "سيد الخواتم" مصنوع للأولاد والراشدين، و"هاري بوتر" للأصغر سناً. لذا لن تجد ل"سيد الخواتم" مشاهدين دون العاشرة من العمر حتى بصحبة أوليائهم لأن الفيلم داكن وعنيف الحركة نوعاً. اما "هاري..." فقد ذهب الى أقصى ما يستطيع الذهاب اليه لضمان ملاءمته للصغار كما كتبت الرواية تحديداً. في طيّات ذلك، فإن الأكثر أهمية بين الإثنين هو "سيد الخواتم". الى جانب درايته في التعبير عما تدور الرواية ذاتها حوله، فإن بيتر جاكسون يخلق توتراً في الصورة التي يرسلها الينا ليس نابعاً من مجرد سرد الحكاية كقصة مثيرة بحد ذاتها، بل نتيجة عمق شخصياتها في مقابل تسطيح تلك الشخصيات في "هاري بوتر". حين لا يمكن تعميق الشخصية كثيراً بسبب مساحتها المحدودة او دورها الموجز فإن جاكسون يعمد الى حدة الموقف الواحد بصرف النظر عن خلفياته. هذا واضح في طريقته معالجة الشخصيات النسائية. الفيلم رجالي ابطالاً وأشراراً، لكن هناك امرأتين تبرزان في مرحلتين متباعدتين وموجزتين هما ليف تايلر وكيت بلانشت. كلاهما تساعدان بطل الفيلم فرودو في مسعاه. جاكسون يعتني كثيراً بالطريقة التي يصوّر فيها كلا الممثلتين وما تستطيعان فعله لإضافة عنصر التشويق في المرحلة المخصصة لكل منهما. على الصورة الشاسعة الحاوية الفيلم كله، فإن جاكسون لا تعوزه القريحة مطلقاً. في رحلة لا تعرف من يبقى حياً فيها ومن يموت، وشخصيات لا تعرف اذا ما كان أحد فيها سينقلب على فرودو لخطف الخاتم منه، ومع ممثلين جيدين في أدوارهم بينهم فيغو مورتنسون وشون بين وإيان ماكيلن من بين آخرين فإن المخرج يبقي الفيلم كله شعلة حية. هي أيضاً شعلة داكنة. هذا بطل يهرع الى الموت بخوف ملحوظ. انه لا يملك خاتماً اذا ما وضعه يستطيع مقارعة خصومه والإنتصار عليهم، بل هو خاتم لعنة عليه أن يردمه الى الأبد. في لحظات كثيرة ينتابك الغيظ كون البطل ضعيفاً وخائفاً. لكن هذا هو بعض جديد الفيلم و- بالنظر الى حاله ووضعه - الأمر "الواقعي" الوحيد.