لم تغير إسرائيل على مدى نصف قرن ونيف استراتيجيتها في حروبها ضد العرب التي تعتمد على اربعة عناصر، هي: 1- الردع المسبق بشن الحرب الوقائية ومباغة الطرف الآخر بالهجوم قبل ان يكمل استعداداته. 2- استخدام البطش العسكري بغرض ارهاب المدنيين وتدمير المؤسسات المدنية والعسكرية. 3- الاسراع في اقامة المستعمرات في الاراضي المحتلة التي تمثل مواقع ارتكاز استراتيجية تدعم قوات الاحتلال، وتمزق الوحدة الجغرافية للاراضي المحتلة. 4- استغلال الظروف الدولية لتحقيق اهدافها. هذا ما حدث في حروب 1956 ، 1967، 1973 1982، وما كرر شارون في حربه في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ أن تولى رئاسة الوزارة في اسرائيل في شباط فبراير 2001. وللحقيقة، فإن الاستراتيجية الاسرائيلية لم تفشل وتهزم الا في جنوبلبنان بسبب المقاومة الباسلة التي ارغمت اسرائيل على سحب قواتها من هذه المنطقة سنة 2000 من دون قيد أو شرط. فمنذ أن اصبح ارييل شارون رئيساً لحكومة وطنية، ويسيطر عليها اليمين المتطرف، وتعتبر في الحقيقة هيئة اركان حرب اكثر منها حكومة مدنية، منذ ذلك الوقت كان على العرب خصوصاً الفلسطينيين ان يدركوا ان هذه الحكومة تعد لشن حرب جديدة ضدهم، تهدف الى تدمير عملية السلام التي بدأت في مدريد سنة 1991، إلغاء الاتفاقات التي وقعتها الحكومات الاسرائيلية السابقة مع الفلسطينيين منذ سنة 1993، تطبيق نظرية "امن القوة" وسلام الاقوياء مع الضعفاء، الهروب من مبادرة السلام العربية التي طرحها ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وتبنتها قمة بيروت العربية في 27 آذار مارس 2002، اجبار العرب والفلسطينيين على التسليم بالشروط التي اعلنها شارون اكثر من مرة. وهذا ما قاله الاميركي ريتشارد فولك: "ما نشهده الآن في فلسطين ليس انتفاضة فحسب بل حرب حقيقية سببها الرئيس هو حصر شارون الفلسطينيين في خيارين: إما الاستسلام وفقاً للشروط الاسرائيلية أو استمرار الانتفاضة. وما يؤكد ذلك، ان الوثائق السياسية الاسرائيلية تثبت محاربة شارون للسلام في كل زمان وفي كل مكان، فقد عارض اتفاقية السلام مع مصر في سنة 1979، وصوت ضد اتفاقات اوسلو في سنة 1993، وشن حملة ضد سياسة انسحاب اسرائيل من جنوبلبنان، وهو يرفض بعناد العودة الى حدود سنة 1967، ويصر على الاحتفاظ بالسيادة الاسرائيلية على القدس، ويرفض عودة اللاجئين الى ديارهم. وما دفع شارون الى سياسة الحرب ضد السلام بطريقة مكشوفة اكثر من اي وقت مضى، هو ان قطاعات واسعة من الرأي العام الاسرائيلي تؤيد هذه السياسة. ففي 28/7/2001 اجرى معهد "غالوب" استطلاعاً للرأي، فأيد 46 في المئة من الاسرائيليين شن هجوم شامل على الفلسطينيين. وبعد قيام شارون بحملته العسكرية الشاملة ضد المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في 29/3/2002 دلت الاستطلاعات الى ان 72 في المئة يدعمون عملية "الجدار الواقي" وأن 62 في المئة يؤيدون سياسة شارون، وهذه الاستطلاعات تفيد أن الاتجاهات اليمينية تهيمن على الرأي العام الذي يستغله شارون لتنفيذ مخططاته ضد السلام. ووجد شارون ضالته الثانية في التداعيات الاقليمية والدولية التي ترتبت على احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001، وما تبعها من حملة عسكرية واعلامية وسياسية قامت بها اميركا ضد الارهاب الدولي. في ضوء ما سبق، يمكن تفسير اقدام شارون على شن الحرب العدوانية ضد الفلسطينيين واستخدام قواته جميع انواع الاسلحة لقتل الابرياء، وتدمير المدن والقرى والتطاول على دور العبادة المقدسة وفي مقدمها المسجد الاقصى وكنيسة المهد، وهو يرفض الامتثال لقرارات مجلس الامن التي صدرت بالاجماع ارقام 1397، 1402، 1403 وتطالبه بوقف اطلاق النار والانسحاب فوراً من المناطق الفلسطينية، والإلتزام بقواعد القانون الدولي. كما انه لم يصغ الى نصائح اصدقائه الرئيس بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير التي تطالبه بوقف اطلاق النار والانسحاب من المدن الفلسطينية. هل هذا يعني انه الطفل المُدلل والمتمرد على ارباب نعمته، أم ان ما قام به شارون هو في الحقيقة الفصل الاول من مسرحية اميركية - بريطانية جديدة في منطقة الشرق الاوسط، قد تشمل دولاً اخرى مثل العراق وايران وسورية ولبنان، وربما السودان والصومال وليبيا؟ هذا ما ستكشف عنه الاسابيع والشهور المقبلة، لكن التاريخ يؤكد أن كل حرب قامت بها اسرائيل، كانت جزءاً من استراتيجية السياسة الاميركية تجاه الوطن العربي، باستثناء حرب سنة 1956 التي فشلت في تحقيق اهدافها لعدم موافقة اميركا ايزنهاور عليها فانسحبت اسرائيل فوراً الى حدود 1948. بوسعنا القول، ان شارون استطاع ان يستغل الظروف الدولية ويعتمد على دعم الولاياتالمتحدة له في شن الحرب الجديدة، والغاء اتفاقات اوسلو بطريقة عملية والهروب من مصيدة المبادرة العربية، هذا ما اشار اليه مدير البرامج الاستراتيجية الاقليمية في مركز نيكسون للابحاث في واشنطن في محاضرته التي ألقاها في طوكيو في 14/2/2002 حيث قال: "إن عملية السلام انتهت الآن، ولا اعتقد أن اميركا قادرة على فرض تسوية ولن تقوم بذلك نظراً للتكاليف السياسية". وقد أكثر العرب الحديث عن السلام الاستراتيجي ولم يقرأوا الحكمة الرومانية القديمة التي تقول "إذا اردت السلام فاستعد للحرب"، ونسوا قول الرسول عليه الصلاة والسلام "المؤمن كيّس فطن والكيّس من دان نفسه". * كاتب فلسطيني.