بقيت الذهنية الإسرائيلية منذ النشأة مسكونة بهاجس صهيوني يقوم على التوسع الجغرافي والسكاني، فحدث التوسع الأول في حرب 1967، فيما كان الثاني توسعا داخليا استمر من خلال مصادرة الأراضي العربية واستقدام مزيد من يهود العالم.ومثلت نتائج هذه الحرب منعطفا تاريخيا في تاريخ التوسع الصهيوني الذي حقق أقصى اتساع له، وظنً أنه بلغ إلى الحدود الآمنة، وللمرة الأولى يجد معظم الفصائل القومية للحركة الصهيونية المتطرفة، ومنهم المسيحيون الصهيونيون، أنه بات من الممكن عمليا إقامة بني إسرائيل على إيرتز (أرض الميعاد باللغة العبرية) بكاملها، من النيل إلى الفرات، وليس على الجزء الأضيق الذي يقتصر على منطقة ما بين البحر ونهر الأردن.بيد أن حرب أكتوبر 1973، وما أفرزته من نتائج عسكرية ثم سياسية، كانت الدليل الأبرز على أن فكرة أرض الميعاد (الكبرى) لا تعدو كونها حلماً صهيونياً لن يمكن تحقيقه، علاوة على أن بداية الحديث عن أجواء للسلام بين العرب وإسرائيل منذ مبادرة روجرز في عام 1970 عُدً دليلاً إضافياً على أن الإسرائيليين لن يمكنهم أن يعيشوا وسط محيط من العداء العربي دون الاعتراف بدولتهم، والذي يقتضي تنازلات كبرى في سبيل تحقيق غاية البقاء "الآمن"، ولو ضمن التعريف الأضيق لأرض الميعاد. ومع دخول مصر في عملية السلام مع إسرائيل، بدأ الحديث يتلاشى إسرائيليا عن مفهوم إسرائيل الكبرى جغرافياً ليتحول إلى مفهوم إسرائيل المتوسعة استيطانياً والمحصنة أمنياً، كما بدت هناك قناعة داخل معظم قطاعات عريضة من القوى الإسرائيلية بضرورة التوصل لصيغة حل وسط يجمع بين الحد الأقصى من "الأمن" و"الأرض"، وبين الحد الأدنى من السكان الفلسطينيين العرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي بحيث تتم إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين جميعهم في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، أي تسلم المناطق الآهلة بكثافة سكانية عربية إلى إدارة عربية أو حتى فلسطينية. سقوط حلم أرض الميعاد وهنا يمكن القول إن الصهيونية التقليدية التي طبعت بالغطاء الديني الصرف قد بدأت في التحول إلى نيو – صهيونية "أمنية" تقوم على تحقيق الحد الأقصى من الأمن، دون أن تغفل البعد الديني، سيما وأن الكثير من الإسرائيليين، سواء من اليمين الديني أو العلماني، يرفض بصورة مطلقة التنازل عن أية منطقة ضمن حدود أرض إسرائيل "التاريخية".ويظهر هذا البعد بوضوح فيما يكشفه مؤلف كتاب "أرض إسرائيل الكاملة"، أرييه نائور، الأستاذ بجامعة بن جوريون، وعمل سابقا سكرتيرا خاصا بحكومة مناحيم بيجين، عن مخطط شارون السري إبان غزو لبنان عام 1982، حيث يقول: "هذا المخطط الذي هدف إليه شارون هو احتلال لبنان ومن ثم إخراج اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن، وبالتالي دعم إقامة الدولة الفلسطينية كوطن بديل للفلسطينيين". ويؤكد نائور على أن "مخططات شارون في اجتياح لبنان وفي تشجيع الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 لم تنبع انطلاقاً من إيمان شارون بفكرة أرض إسرائيل الكبرى، لأنه لا يمكن اعتبار شارون يؤمن بأيديولوجيا دينية، وإنما من خلال اعتقاده بأنه من الضروري الحفاظ على المناطق والاستيطان في كل مكان ممكن لأنه بذلك تكون إسرائيل أقوى وأكبر". إسرائيل إذن ومنذ انطلاق عملية التسوية، سعت لاعتراف الأطراف العربية بها كدولة ستعمل في كل حال على توفير أقصى درجات الأمن، وتحقيق أدنى حد من الوجود العربي داخلها. وقد تعزز هذا التوجه مع الفشل الإسرائيلي في قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 – 1993)، ثم مع انطلاق مسيرة التفاوض مع الفلسطينيين منذ العام 1991، وهو ذات العام الذي ألغت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 16 ديسمبر قرار اعتبار الصهيونية حركة عنصرية. في هذا السياق مثل اتفاق أوسلو (13 سبتمبر 1993) بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بداية الانحسار للفكرة الصهيونية، بمعناها الأوسع، لأنه وبغض الطرف عن بعض سلبيات الاتفاق أو عدم استكمال مسيرة أوسلو فيما بعد، فإن الاتفاق في حد ذاته كان بمثابة تطبيق لفكرة منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً في الضفة الغربيةوغزة لحين قيام دولة فلسطينية، كما أنه نظرياً قد فرض على إسرائيل ما يشبه الحدود لأول مرة في تاريخها، حتى وإن كان هناك، من الناحية العملية، اتفاق عام بين كافة القوى –والمشاريع- الإسرائيلية على عدم الانسحاب الكامل وضم أجزاء تعدها إسرائيل مهمة من الضفة الغربية إلى إسرائيل بصورة نهائية، واعتبار ضم القدس أمرا مفروغا منه، وشبه إجماع على عدم الانسحاب من مرتفعات الجولان أو الانسحاب منها بشروط تعجيزية تضمن التطبيع والأمن الكاملين لإسرائيل مع سوريا. والثابت في كافة هذه المراحل، حربياً وسلمياً، بين إسرائيل والعرب، أن إسرائيل كانت تطبق على أرض الواقع سياسة تقوم على "يهودية الدولة" في ناحية التعاطي مع فلسطيني 48 و67، إلا أنها لم تطلب قط الاعتراف بها كدولة "يهودية" منذ انطلاق التفاوض مع مصر، ثم الأردن، ثم منظمة التحرير الفلسطينية والتي توقفت في العام 2000، بل نالت اعترافا عربيا بوجودها كدولة أو كما جاء في وثيقة أوسلو عبارة فضفاضة هي (حق إسرائيل في الوجود). ولا يعني ذلك أن الحلم الصهيوني بفكرة إسرائيل الكبرى قد ألغي، على الأقل عاطفيا وأيديولوجيا، من ذاكرة بعض أقطاب اليمين الإسرائيلي؛ فقد صرح رئيس الوزراء إسحق شامير في لحظة تأثر وجداني عميق ساعة تدفق المهاجرين السوفيت في مطلع التسعينات بأن "إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي وحلمي شخصيا" (19)، وأنه "بدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم". بل إن كل قادة إسرائيل، سواء من العمل أو الليكود، ومنذ انطلاق التسوية مع الفلسطينيين في بداية التسعينات يصورون أمام الرأي العام الدولي أنهم يتخلون عن جزء من أرض الميعاد ويقدمون تنازلات مؤلمة لأجل السلام. وداخل حزب الليكود لا يوجد منذ سقوط إسحق شامير في عام 1992 من يتحدث عن أرض إسرائيل الكبرى بالمفهوم الأيديولوجي، فما تبقى لليكود من أيديولوجية أرض إسرائيل الكاملة هو الادعاء الأمني فقط، حيث أن رئيسين من رؤساء الحكومة عن الليكود ما بعد اتفاقيات أوسلو (مرحلة التسعينات)، نتنياهو وشارون، استمرا في عملية التسوية السياسية كل حسب أسلوبه الخاص.وكما سبق لم تطالب إسرائيل في أي وقت خلال مسيرة المفاوضات مع الأطراف العربية ب "يهودية" الدولة ولم تكن شرطا رئيسا في أي مفاوضات، بل لم تسعَ إسرائيل لاعتراف الأطراف الغربية بهذا الأمر الذي لا يزال يتكرس رويدا رويدا على أرض الواقع من خلال سياسة الاستيطان في الضفة الغربيةوالقدس واعتماد سياسة تضييق الخناق على عرب الداخل. صهيونية شارون.. أمنية وديموجرافية وفي حمأة توقف عملية التسوية منذ أواخر العام 2000، وانطلاق الانتفاضة الثانية، ثم أحداث 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من إعلان الحرب الأمريكية ضد "الإرهاب" والاستعداد الأمريكي لاحتلال العراق، طرح الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش رؤيته لحل الدولتين في 24 يونيو 2002، ووافقت عليها الرباعية الدولية في 20 ديسمبر من نفس العام، لكنها لم تعلن رسميا من قبل وزارة الخارجية الأمريكية إلا في 30 إبريل 2003 (أي بعد غزو العراق).عند هذا الحد، بدأت أفكار شارون النيو صهيونية تتبلور بشكل واضح، إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية يوم 25 مايو 2003 على خطة خارطة الطريق، وأرفقت هذه الموافقة بالتحفظات الأربعة عشر، التي وعدت إدارة بوش أن تأخذها في الاعتبار بكامل الجدية، لكن أن يتضمن هذا الوعد ضمانا لجميع الطلبات الإسرائيلية، وكان من بين هذه التحفظات ما يلي : التحفظ رقم (6): "فيما يتعلق بكل من الإعلانات الافتتاحية والختامية، يجب تضمينها الإشارة إلى حق إسرائيل بالوجود كدولة يهودية، والتنازل عن أي حق في العودة (للفلسطينيين) إلى دولة إسرائيل". التحفظ رقم (5): "تحدد سمة الدولة الفلسطينية الانتقالية بالتفاوض بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ويكون للدولة الانتقالية حدودا انتقالية وبعض مظاهر السيادة، وأن تكون منزوعة السلاح بشكل كامل دون قوات عسكرية، ولن يكون لها صلاحية عقد التحالفات الدفاعية أو التعاون العسكري، والإشراف الإسرائيلي على دخول وخروج جميع الأشخاص والبضائع، وكذلك في مجالي الجو والمجال الإلكترومغناطيسي. التحفظ رقم (9): "لن يكون هناك إشراك لقضايا تعود للحل النهائي. ومن ضمن القضايا التي لا تناقش: المستوطنات في يهودا والسامرة وغزة (باستثناء تجميد الاستيطان والنقاط غير القانونية)، ووضع السلطة الفلسطينية ومؤسساتها في القدس، وكل القضايا الأخرى التي يتصل جوهرها بالتسوية النهائية.