صعدت كتائب شهداء الأقصى والعودة والجيش الشعبي التابعة لحركة "فتح"، خلال الأسابيع الماضية، عملياتها ضد الأهداف الاسرائيلية، الى درجة يمكن القول معها ان هذه الحركة تصدرت أو استفردت تقريباً، ومنذ منتصف كانون الثاني يناير الفائت، بمشهد المقاومة المسلحة. وقد أثارت هذه العمليات بكميتها وبنوعيتها وبالرسالة السياسية التي حملتها استهداف العسكريين والمستوطنين الاسرائيليين في الأراضي المحتلة، مجدداً، انتباه المراقبين للدور الذي اضطلعت به "فتح" في المقاومة المسلحة منذ اندلاع الانتفاضة، في محاولة منها، أولاً، للرد على الارهاب والتدمير الاسرائيليين" وثانياً، كوسيلة لرفع كلفة الوجود الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وصولاً لدحر الاستيطان والاحتلال" وثالثاً، لتكريس قاعدة الانتفاضة والمفاوضة ووضع حد لسياسة الإملاء الاسرائيلية" وذلك بالتوازي والتكامل مع الصراع الجاري بالوسائل السياسية ومن دون القطع مع العملية التفاوضية. وفي الحقيقة فإنه ومنذ بداية المواجهات الفلسطينية - الاسرائيلية، أواخر العام 2000، حملت "فتح" أساساً مسؤولية احتضان أو تعزيز الطابع العسكري للانتفاضة، كما انها احتلت دوراً كبيراً في مشهد المقاومة طوال أشهر الانتفاضة راجع موضوعنا في الحياة 14/12 ص21. ويؤكد زئيف شيف المحلل العسكري في هآرتس، هذه الحقيقة، بقوله: "نحو 80 حتى 90 في المئة من العمليات... يقوم بها اليوم التنظيم، الذي هو الذراع العسكري لفتح". 30/11/2001. أما روني شيكد المحلل في معاريف فيقول: "منذ بدأت انتفاضة الاستقلال غدا تنظيم فتح حزب الله المناطق: ميليشيا تقوم في النهار بتحريض الشارع الفلسطيني وفي الليل تنفذ عمليات عصابية ومهام ارهابية وخصوصاً اطلاق الرصاص على المستوطنات والمنشآت العسكرية أو نصب كمائن بالرشاشات أو العبوات الناسفة على الطرقات". 26/20/2001. وعلى رغم ذلك، ولأسباب سياسية، تتعلق بوجودها بالسلطة وبفهمها لاستثمار الانتفاضة، ولزوم ربط الأشكال النضالية باستراتيجية دحر الاحتلال والاستطيان، فقد لوحظ عزوف حركة "فتح" ولفترة طويلة عن تصدر مشهد العمليات المسلحة، وسعيها لممارسة المقاومة المسلحة بوتيرة مخفضة ومحسوبة من الناحية السياسية، وتجنبها زجّ كل قواها في المعركة، مرة واحدة، وتحاشيها دفع الأمور الى حافة الهاوية في الصراع ضد اسرائيل، وتركيزها على الأهداف الاستيطانية والعسكرية في الأراضي المحتلة. وعليه فقد كان من الطبيعي إذ ذاك ان تبرز العمليات الاستشهادية، التي تتم في الأراضي الفلسطينية المغتصبة عام 1948، على حساب العمليات الناشطة للمقاومين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وذلك بسبب الزخم الذي تحظى به هذه العمليات من الناحيتين الإعلامية والسياسية ومحاولة اسرائيل ابراز تلك العمليات للتشكيك بعدالة الكفاح الفلسطيني داخلياً وخارجياً ووصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وبالتالي لإظهار الحرب التدميرية التي تخوضها ضد الفلسطينيين بمثابة حرب دفاعية على وجودها، ما يفيد في تغطية جرائمها ضدهم وتغطية الطابع الاستعماري لها في الأراضي الفلسطينية. وكانت اسرائيل تنبهت منذ البداية لخطورة الدور الذي تضطلع به حركة "فتح" في الانتفاضة وأهميته، بجانبيه السياسي والعسكري، وهو ما يفسر تركيزها على اغتيال ناشطيها الميدانيين، حتى أن عمليتي الاغتيال الأوليين اللتين نفذتهما اسرائيل ضد الناشطين الفلسطينيين استهدفتا اثنين من كوادر فتح هما: حسين عبيات 9/11/2000 في بيت لحم ويوسف عواد 16/11/2000 في الخليل، وبعد شهر ونصف الشهر اغتالت د. ثابت ثابت 31/12/2000 في طولكرم، وظلت عملية اغتيال ناشطي فتح، الى جانب الناشطين من الفصائل الأخرى، خصوصاً حماس والجهاد الإسلامي، هدفاً ثابتاً على الأجندة الاسرائيلية، كما ان اسرائيل بذلت جهداً كبيراً لدى الادارة الأميركية من أجل وضع "التنظيم" والأذرع العسكرية لحركة فتح على قائمة المنظمات الارهابية غير المشروعة التي أصدرتها هذه الادارة، أخيراً، من دون ان تفلح في ذلك. الآن ومع التصعيد الذي اعتمدته حركة "فتح" يمكن ملاحظة ان هذه الحركة اتجهت نحو رفع وتيرة عمليات المقاومة، كماً ونوعاً، وانها في شكل خاص، كسرت الحظر على العمليات التي تستهدف الاسرائيليين، في الأراضي الفلسطينية المغتصبة في العام 1948، ما أثار تساؤلات جدية لدى المراقبين حول أسباب التصعيد وأثره في العملية السياسية وخصوصاً حول مغزى القيام بعمليات في الداخل الاسرائيلي. وفي محاولة الاجابة عن هذه التساؤلات ليس من الصعب ملاحظة ان الأذرع العسكرية لحركة فتح كانت تنشط في عملياتها، على الأرجح، في أعقاب كل حملة تصعيد اسرائيلية، ليس من باب الثأر، وانما تأكيداً لحكومة شارون أن هذه الحملات لن تجدي نفعاً ولإيجاد معادل يرفع معنويات الفلسطينيين ويعزز من صمودهم. وقد جاءت العمليات الأخيرة، مثلاً، بعد أن ظلت اسرائيل غير مبالية بقرار وقف اطلاق النار الذي أعلنه الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، يوم 16/12، من العام الماضي، وبعد الهدنة التي التزمتها الأذرع العسكرية لفتح وحماس والجهاد الإسلامي. إذ ظلت اسرائيل تمارس سياسة التدمير والحصار والاغتيالات، ومن ضمن ذلك احتجاز الرئيس عرفات في رام الله. وكانت عملية اغتيال الناشط في "فتح" رائد الكرمي، يوم 14/1/2002، في طولكرم، بمثابة الفاصل بين مرحلتين، إذ جاء رد الفعل على الانتهاكات الاسرائيلية وعلى عملية الاغتيال قاسياً جداً، فهو الذي أطلق موجة العمليات الفلسطينية الكبيرة منذ ذلك الوقت وحتى الآن. يقول اليكس فيشمان: "تصفية رائد الكرمي تمخضت عن موجة "عمليات فدائية" تجددت مع قرار المجلس الوزاري بمواصلة حبس عرفات. التنظيم نفذ وحده منذ أواسط كانون الثاني ما لا يقل عن تسع عمليات من هذا القبيل". يديعوت أخرونوت 1/3/2002. ويؤكد زئيف شيف ذلك بقوله: "بدأ التصعيد الحالي مع اغتيال نشيط فتح رائد الكرمي في 14 كانون الثاني. وغداة هذا اليوم بدأ التصعيد في العمليات... من ناحية اسرائيل التصعيد يتمثل أولاً بعدد الخسائر منذ ذلك الحين: 23 قتيلاً منهم ستة جنود، وحوالى 250 جريحاً". هآرتس 17/2. وبحسب صحيفة يديعوت أخرونوت 2/3 فقد لقي 30 اسرائيلياً مصرعهم في الأسبوع الأول من شهر آذار مارس وحده، 12 منهم عسكريون، 29 منهم جراء عمليات نفذتها كتائب شهداء الأقصى، وبحسب المعطيات الاسرائيلية، فقد لقي 51 اسرائيلياً، مصرعهم على يد كتائب "فتح"، خلال هذا العام، في مقابل 10 على يد حركة حماس. حلمي موسى، السفير، 4/3. وما ساهم، أيضاً، في تصعيد عمليات المقاومة الفلسطينية ادراك حركة "فتح" الظروف السياسية التي باتت مواتية أكثر لتنشيط هذا الشكل من المقاومة، لا سيما أنها جاءت، أولاً، في سياق الدفاع عن النفس وكرد فعل على التشدد الاسرائيلي في حصار أو اقتحام المدن والمخيمات الفلسطينية" ثانياً، انها جاءت بعد ان فوتت حكومة شارون فترة التهدئة النسبية الحاصلة بين اعلان وقف اطلاق النار من جانب عرفات واغتيالها الكرمي 16/12 - 14/1 ما أكد عدم تجاوب حكومة شارون مع مساعي التهدئة سواء للاسرائيليين أو للأطراف الدوليين" ثالثاً، اقترن هذا التصعيد بطرح الكثير من المبادرات السياسية، التي تنفي الصراع الوجودي، الذي تحاول حكومة شارون توظيفه داخلياً وخارجياً خدمة لسياساتها، التي تؤكد أن السلام ممكن في حال الانسحاب الاسرائيلي العسكري والاستيطاني من الأراضي المحتلة، ومن ضمن ذلك المبادرات المصرية والسعودية والمقال الذي نشر في هذا المعنى باسم الرئيس عرفات في صحيفة نيويورك تايمز، يوم 3/2/2002. أما مغزى التصعيد في المقاومة فيمكن تفسيره بمحاولة الفلسطينيين ايجاد حال من الردع ضد حكومة شارون بعد أن تبين عنتها وفشل طريقها الأمني، واستثماراً منهم للحال السياسية الدولية المحيطة بالانتفاضة التي استعادت توازنها، بعد أن خفّت الموجة الهستيرية المتعلقة بالحرب ضد الارهاب، والتي أثّرت سلباً في الاهتمام الدولي والعربي بالقضية الفلسطينية وشوشت الفارق بين الارهاب ومقاومة الاحتلال، وأيضاً سعيهم لتأكيد حضورهم السياسي في ظل التطورات الاقليمية الحاصلة، ومن ضمن ذلك قرب عقد مؤتمر القمة العربية في بيروت في ظل استمرار احتجاز رئيسهم ياسر عرفات. وفي هذا الاطار يمكن فهم تجاوز فتح الخطوط الحمر التي رسمتها لنفسها والتي حاولت تعميمها على الفصائل الأخرى، والمتعلقة بعدم تنفيذ عمليات ضد المدنيين الاسرائيليين داخل اسرائيل. والمعنى ان قيام الأذرع العسكرية لفتح بعمليات في تل أبيب أو القدس الغربية أو الخضيرة أو في الجليل، لا يعبر عن الاستراتيجية التي اعتمدتها الحركة طوال العام الأول من الانتفاضة، والمتمثلة باستهداف الاسرائيليين العسكريين والمدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما ينسجم مع هدف الانتفاضة بدحر الاحتلال والاستيطان من هذه الأراضي، فهذه العمليات جاءت خدمة لتكتيك معين وفي اطار الصراع السياسي ذاته، والهدف منها بعث رسالة الى شارون مفادها ان معاودة اقتحام أو احتلال المدن والمخيمات الفلسطينية هو بدوره خط أحمر لا يمكن تمريره للاسرائيليين، وان الالتزام بقواعد الصراع لا يمكن ان يكون مقبولاً على طرف دون الطرف الآخر، في اطار لعبة الاخضاع المتبادلة. المفارقة ان التصعيد الفلسطيني في عمليات المقاومة لم يقابله هذه المرة رد فعل كبير، في اسرائيل وعلى الصعيد الدولي. فقد شهدت اسرائيل تظاهرات ضد سياسة شارون مؤيدة لوقف الاستيطان وللانسحاب من الأراضي المحتلة كما شهدت عريضة الجنود والضباط وتصاعد الخلافات بين أطراف الائتلاف الحكومي، ودولياً شهدت تزايد المواقف المؤيدة للفلسطينيين والرافضة مواقف اسرائيل، ويتعلق ذلك أيضاً، ونسبياً، بالموقف الأميركي" وهذا ما يؤكد أهمية التكامل بين العمل السياسي وأشكال المقاومة ومن ضمنها المقاومة المسلحة، التي يجب ان تبقى منضبطة في توقيتها واستهدافاتها وتوظيفاتها السياسية. * كاتب فلسطيني.