قبل سنتين انتخبت روسيا فلاديمير بوتين رئيساً للدولة، لكن ضابط الاستخبارات السابق الذي تربع فوق عرش الكرملين ظل لغزاً للكثر، إذ أن شعبيته ضربت الأرقام القياسية على رغم أن حصيلة السنتين كانت شحيحة، وفقدت روسيا في عهده مواقع دولية وغدت مطوقة بقواعد أميركية من الغرب والشرق والجنوب. وقطع بوتين بسرعة مذهلة مسافة واسعة تفصل بين موقعه الأول مقدَّماً في جهاز الاستخبارات السوفياتي كي جي بي ورئيساً للدولة. ولم يكن الكثر يعرفون حتى اسمه عندما اختاره الرئيس السابق بوريس يلتسن رئيساً للوزراء ثم كلفه مهمات الرئاسة الأولى بعدما استقال يلتسن من المنصب في آخر يوم من عام 1999. وعلى رغم أن الانتخابات المبكرة جرت في 27 آذار مارس إلا أن بوتين تمكن خلال هذه الفترة القصيرة من اكتساح كل الأرقام القياسية وحقق شعبية هائلة أهّلته للفوز على منافسه الأساسي الشيوعي غينادي زيوغانوف من الجولة الأولى. وتوسم الروس في بوتين قيادة شابة خلافًا ليلتسن المترهل وتوقعوا منه سياسة صارمة تكفل وقف الفساد والتصدي للجريمة، ولكن الأهم أن بوتين دخل الكرملين على حصان الحرب الشيشانية، فهو وعد الشعب بأن "يطحنهم المقاتلين الشيشان ولو كانوا في المراحيض". ولذلك قدمت القيادة العسكرية في المناسبة أرقاماً تثير الشكوك عن مصرع 13 ألف شيشاني، وذكر الجنرال ستانيسلاف كانوف نائب القائد العام لقوات الأمن الداخلي أنه لم يبق من المسلحين الشيشانيين "الفاعلين" سوى 250- 300 عنصر. إلا أن الجنرال لم يفسر لماذا تحتفظ روسيا ب80 ألف جندي وضابط لمحاربة هذه الحفنة. ويبدو واضحاً أن المطلوب هو تعزيز شعبية رئيس الدولة وإضافة "انتصار" آخر الى انجازاته. ويقول أنصار بوتين إنه حقق وحدة المجتمع وأمن الاستقرار السياسي وأعاد الى الدولة هيبتها وعمل على تقليص نفوذ رجال المال الذين كانوا يحكمون من وراء الكواليس. ويتحدثون أيضاً عن نمو اقتصادي في حدود ثلاثة الى أربعة في المئة بعدما كان الاقتصاد يسجل تراجعاً مستمراً. وعلى الصعيد الدولي يرون أن سياسة التقارب مع الغرب التي يتبعها بدأب منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر ستكفل صعود روسيا الى القطار الغربي وتضمن تدفق الاستثمارات إليها. إلا أن خصوم الرئيس يؤكدون انه اتبع سياسة "التخدير"، وهو حينما تحدث عن تعزيز "عمود السلطة" إنما كان يعني ترسيخ سلطته الفردية، إذ أنه قسم روسيا الى سبع دوائر فيديرالية وضع على رأس كل منها واحداً من المقربين إليه وجعله أشبه ب"الحاكم العسكري". وفي عهده تقلص دور البرلمان وجرى تضييق الخناق على وسائل الإعلام، وهم يعتبرون أنه خدع الشعب حينما تحدث في مطلع عهده عن إعادة بناء الدولة القوية وتعزيز الجيش، بل إنه أصر على إعادة اعتماد موسيقى النشيد السوفياتي. وبدل استعادة المواقع الدولية الضائعة اتبع سياسة موالية للولايات المتحدة وأيد حملتها ضد "الإرهاب" وفتح الأجواء أمام طائراتها وأعطى الضوء الأخضر لإقامة قواعد عسكرية أميركية في آسيا الوسطى. ويعتقد محللون أن الغطرسة الأميركية مضافة الى استياء الرأي العام الروسي قد تدفع بوتين الى مراجعة سياسته، ولكن ذلك لن يتحقق ما لم يستثمر الرئيس الروسي السنتين المقبلتين لصوغ نهج واضح له وتشكيل فريق جديد يعتمد عليه بدلاً من "المطبخ" الذي ورثه من بوريس يلتسن. وثمة توقعات متباينة عن الوجهة التي سيختارها سيد الكرملين بعدما قطع قطاره نصف الطريق. وسيكون المؤشر الواضح على مقاصده الرسالة السنوية التي سيوجهها الى البرلمان مطلع الشهر المقبل والتغيير الوزاري الذي طال انتظاره. فإذا صحت التخمينات عن تعيين "عراب الخصخصة" أناتولي تشوبايس رئيساً جديداً للحكومة فإن ذلك يعني أن بوتين حسم أمره لمصلحة المعسكر الغربي وعين أحد "رجال أميركا" في ثاني أهم موقع. أما إذا اختار شخصية محايدة أو قريبة من اليسار فإن ذلك سيكون إعلاناً عن أن حملته الانتخابية الرئاسية لعام 2004 ستجرى تحت شعار "الوحدة الوطنية". إلا أن بوتين يبقى في مطلق الأحوال رجل الألغاز فهو حيّر اليسار الشيوعي حينما "سرق" شعاراته من دون أن يطبقها وحيّر اليمين الليبرالي عندما طبّق شعاراته من دون أن ينتمي إليه شكلياً. ولعل أحد المعلقين كان محقاً حينما قال إن بوتين ممثل يلعب أدواراً مختلفة على مسرح واحد.