فلاديمير بوتين لا يحمل غصن الزيتون في شماله والبندقية في يمينه، بل يضع في قبضة واحدة الغصن الغض والهراوة النووية، تاركاً للناظر ان يختار زاوية النظر وفقاً لمصالحه و"حجمه" في العلاقات الدولية أو في خطط سيد الكرملين. بدأ بوتين أول جولة له في الخارج بعد انتخابه رئيساً للدولة حاملاً غصناً تمثل في موافقة مجلس الدوما البرلمان على معاهدة "ستارت 2" لخفض الأسلحة النووية، ووعداً بإجراء انتخابات في الشيشان بعد سنتين، وتلميحاً الى احتمال التفاوض مع الرئيس اصلان مسخادوف. لكنه لم يمنع جنرالاته من الاستمرار في "إبادة العصابات" واستعراض العضلات النووية. بل ان الرئيس نفسه شارك في مناورات لإطلاق صاروخ عابر للقارات من بحر الشمال وأصر على ان يُمضي ليلة في غواصة نووية غاطسة بعد ان كان استقل طائرة مقاتلة من طراز "سوخوي" ليهبط بها قرب غروزني. ويخطئ من يحاول ان يقدم تفسيراً واحداً وحيداً لكل من تلك الرسائل، اذ ان واضعها جعلها حمّالة أوجه، غصناً وبندقية، ومن خلالها يمكن ان تُقرأ الصفحات الأولى من كتاب كان مغلقاً اسمه: فلاديمير بوتين. فهذا الحقوقي الذي صار ضابطا في الاستخبارات يحمل العديد من السمات المشتركة مع زملائه في ال"كي.جي.بي" في آخر عهده. فهذا الجهاز الأمني الذي عرف عنه في العقود الأولى انه يضم محترفي القتل والتعذيب، أخذ يتغير تدريجياً ليبقى أداة قمعية، لكن بأساليب "حضارية". والأهم من ذلك ان خريجي هذه المدرسة تربوا على روحية "الدولة القوية" من دون الالتفات كثيراً الى المضمون الايديولوجي لهذه القوة. وبفضل اتاحة الفرصة امامهم لرؤية ما وراء الستار الحديد، فإنهم أدركوا قبل غيرهم عمق الهوة التي تفصل بلادهم عن سائر دول العالم المتقدمة في مجال الحضارة المادية. ومن هذا المنطلق فالأرجح ان بوتين يريد لعهده ان يوقف عملية التفكك والانهيار، ويشهد قيام حكم قال عنه أحد المقربين الى الكرملين انه يهدف الى "فرض الديموقراطية" وبناء اقتصاد حرّ بأساليب قد تُعتبر انتقاصاً من الحرية. وقرر الرئيس الجديد ان ينهي فوراً الاحاديث عن احتمال انكفاء روسيا على نفسها وانعزالها عن العالم، فبدأ عهده بسلسلة خطوات مترابطة رغم انها تبدو متناقضة. فهو وعد باتباع "سياسة هجومية" في الخارج، وطالب بأن تكون الالتزامات الدولية لبلاده "متماشية" مع العقيدتين العسكرية والأمنية الروسيتين وليس العكس، واكد من على متن الغواصة النووية ان روسيا ستحتفظ بأسطول قوي في بحر الشمال، أي في المناطق التي يمكن ان تهدد منها الولاياتالمتحدة. وفي المقابل ضغط الكرملين على البرلمان الذي كان رفض طوال سبعة أعوام المصادقة على "ستارت 2" التي وقعت عام 1993 وأبرمها الكونغرس الاميركي الا ان مجلس الدوما الذي كان تحت سيطرة اليسار رفض اقرارها واعتبرها تنازلاً من طرف واحد، هو طبعاً روسيا. الا ان الشيوعيين فقدوا نفوذهم في البرلمان، ما أتاح لأنصار بوتين تأمين مصادقة سريعة على المعاهدة التي تعني عملياً اقراراً من روسيا بأنها لم تعد واحداً من القطبين الاعظم على الصعيد النووي، بعد ان كانت فقدت قبل عشر سنوات هذه الصفة على الصعيد السياسي. والجعجعة التي أثارها صديق الكرملين فلاديمير جيرينوفسكي عن وجود أسلحة "بديلة" يمكن في حال استعمالها "اغراق" اميركا الشمالية كلها، هي من باب التنفيس فحسب. فقد اعترف القادة العسكريون الروس بأن بلادهم غير قادرة على مواكبة الولاياتالمتحدة في مجال السلاح النووي بسبب عوامل اقتصادية معروفة. وعلى أي حال فإن المعاهدة غدت "هدية" ثمينة حملها بوتين الى لندن التي اختارها أول محطة له في العالم الغربي وحاول ان يجعل منها جسراً يصله بواشنطن مستثمراً الصلات الانغلوساكسية وروابط توني بلير وبيل كلينتون، ومعتمداً على انه والزعيمين البريطاني والاميركي من أعمار متقاربة، وهم يمثلون جيل الساسة الجدد البراغماتيين الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية. إلا ان اختيار لندن كان مدفوعاً ايضاً بعامل "قوقازي"، اذ ان موسكو بدت مستاءة من حليفتيها التقليدتين في أوروبا، فرنسا وألمانيا، اللتين اتخذتا موقفاً متشدداً ضد الحرب الشيشانية وانتهاكات حقوق الانسان، بينما لم تظهر بريطانيا تحمساً لفكرة فرض عقوبات على روسيا واكتفت بعتاب لا يؤذي العلاقات الثنائية. والكرملين عموماً لا يمانع في ان تصدر قرارات "نارية" عن الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي، مدركاً انها نار لا تكوي، الا انه حريص على ألا تصدر مثل هذه القرارات عن الهياكل التنفيذية في القارة. وهذا بالضبط ما حصل: فبعد يوم واحد من حديث البرلمانيين عن "انتهاكات فاضحة" لحقوق الانسان ومطالبتهم بالوقف الفوري للحرب وطرد روسيا من المجلس الأوروبي، وصل الى موسكو وفد يمثل "ترويكا" الاتحاد الأوروبي، وأكد ان العلاقات مع روسيا لن يكدّرها موت مدنيين في القوقاز أو اغتصاب فتيات شيشانيات. فالأوروبيون، كما قال خافيير سولانا، براغماتيون يهمهم انتظام الحوار مع موسكو. وليس صحيحاً ان الضغوط العالمية، والأوروبية تحديداً، دفعت الكرملين الى البحث عن قنوات للحوار مع الشيشانيين، بل ان هناك اسباباً أخرى جعلت موسكو تتراجع عن نيتها مواصلة الحرب حتى "النصر". ولعل من أهم هذه الاسباب ان الحملة القوقازية فقدت مبرراً اساسياً، بعد ان أمّنت فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية، وبذا انتفت الحاجة اليها. والى ذلك فإن روسيا تتكبد خسائر اقتصادية هائلة قادرة على عرقلة اصلاحات ينوي الرئيس الجديد تطبيقها فور تنصيبه في السابع من أيار مايو المقبل. اما الخسائر البشرية وانتهاكات حقوق الانسان فأسباب "ثانوية" وإن كانت مزعجة للكرملين دولياً. ولذا بدأ الحديث عن احتمالات التفاوض، واكد وزير الخارجية ايغور ايفانوف ان "الحرب انتهت" وبدأت مرحلة التسوية السياسية، وفي اطارها جرت اتصالات مع أطراف شيشانية بينها الرئيس اصلان مسخادوف. ومرة أخرى تجاور هذا الغصن مع راجمات "غراد" التي واصلت اطلاق حممها، فيما أكد قائد القوات الفيديرالية في الشيشان غينادي تروشيف ان الحديث عن نهاية الحرب "سابق لأوانه". والصراع بين الصقور والحمائم محسوم سلفاً لصالح... رئيس الدولة الذي يريد الخروج من الحرب ب"منجزات" تسجل له من دون ان يخسر دعم قيادة القوات المسلحة التي تعترض على وقف القتال، قبل "القضاء على آخر قاطع طريق" كما ذكر تروشيف. وتحاول موسكو ان تخلق "مفاوضين" شيشانيين غير مسخادوف، مدعية ان الأخير "فقد" شرعيته أو انه لا يسيطر على المقاتلين ولا يمثل غالبية الشعب الشيشاني. وظهرت فعلاً مراكز قوى تطرح نفسها بديلاً عن مسخادوف وأهمها "مجموعة غوديريس" التي يقودها المفتي أحمد الحاج قادر الذي لا يخفي رغبته في ان يكون رئيساً للجمهورية، كما انه يؤكد احتمال قيام صراع شيشاني - شيشاني على أساس الخلاف بين الطرق الصوفية التقليدية في القوقاز وبين المذاهب "السلفية" التي يعتبرها المفتي "دخيلة". وإذا أخذ الكرملين برأي "خبراء" ينصحون بتقليص الوجود العسكري الروسي مع إذكاء الاحتراب الداخلي الشيشاني، فإن القوقاز سيكون مهدداً بانفجار أخطر من الحرب الحالية، وسيؤدي الى نزف اقتصادي وبشري مستمر. والأرجح ان بوتين لن يتخذ قراراً نهائياً الا بعد تنصيبه. وحتى ذلك الحين سيظل مشغولاً ب"حرب" اخرى تجري داخل الكرملين ومن حوله على تشكيل الحكومة الجديدة وتحديد برامجها الاقتصادية. ويجري الصراع بين خمس مجموعات ثلاث منها "تقليدية" كانت متنفذة في عهد بوريس يلتسن وغدت ضمن "الإرث" الذي حصل عليه بوتين. المجموعة الأولى، تضم رجلي الاعمال المعروفين بوريس بيريزوفسكي ورومان ابراموفيتش وابنة يلتسن تاتيانا ومدير الديوان الرئاسي الكسندر فولوشين. ويدعو هؤلاء الى "حكم الاوليغاركية" والتكامل بين السلطة والمال، والأغلب ان بوتين سيحاول تقليص نفوذ هذا الفريق. المجموعة الثانية، يقودها "عراب" الخصخصة اناتولي تشوبايس وتضم ممثلي التيار الداعي الى استنساخ تجربة الغرب والقيام بجولة ثانية من "العلاج بالصدمة". وتقترب من هؤلاء المجموعة الثالثة بقيادة الوزير السابق بيوتر افين الذي دعا الى جعل روسيا "تشيلي ثانية". ويناور الرئيس الجديد بين هذه المراكز الثلاثة ليكسب الوقت الكافي ريثما يخلق لنفسه ركائز يطمئن اليها. وقد بدأ بالفعل تشكيل مجموعتين تضم الأولى زملاء بوتين السابقين في الاجهزة الأمنية، فينما تجمع الثانية ابناء مدينته سانت بطرسبورغ الذين عمل وإياهم حينما كان نائباً لمحافظ المدينة. وقد يعتبر تعيين النائب الأول لرئيس الوزراء ميخائيل كاسيانوف رئيساً للحكومة الجديدة "انتصاراً" لمجموعة بيريزوفسكي - ابراموفيتش الا ان المحللين يرون ان هذه الحكومة لن تعمر طويلاً. فبوتين يحتاج الى بضعة اشهر للتخلص من "ميراث" يلتسن ورجاله.