من بروكسيل حيث افتتح مؤتمر ميثاقي الصفة يناقش لمدة عام مستقبل الاتحاد الاوروبي في 28 شباط فبراير الماضي الى برشلونة حيث انعقدت قمة اوروبية أخرى اتجاه تصاعدي. وتبدو ملائكة الولاياتالمتحدة وشياطينها حاضرة في خلفية اي انقسام او، اتفاق، كما في متون الاسئلة والاجوبة وهوامشها. وليس من قبيل المبالغة القول ان جل ما يعتمل في الصدر الاوروبي يبدو وكأنه صدى لما هو قائم ولما يقوم في الولاياتالمتحدة الاميركية، من غير ان نغفل ان لأوروبا فرنسا على وجهه التحديد هواجس حالية تتصل بصعود المانيا الموحدة واخرى تتصل، بدرجة اقل، باحتمالات قوى عظمى مستقبلية. واذا كانت قمة برشلونة اكثر اجرائية او على الاقل هذا ما تطمح اليه، فإن مؤتمر بروكسل نحا اكثر الى اتجاهات ميثاقية بحيث تبدو اسئلته، على عادة كل ما هو ميثاقي، اكثر شمولية وتتصل بتعريف الادوار والاهداف. الا انها في حال اوروبا اسئلة تنتج اسئلة اخرى اكثر مما تقود الى اجابات. فالانقسام جدي حول شكل الاتحاد ومؤسساته الدستورية بين دعاة نقل السلطة الى مركز موحد يربط مصالح الاوروبيين ربطا مؤسساتيا، وبين دعاة التعاون بين الحكومات بما يحفظ للدول الاعضاء مرونة في التعامل مع القضايا ذات الطابع السيادي، لا سيما الدفاع والسياسة الخارجية، والتي كانت طوال الوقت شوكة في خاصرة اداء الاتحاد الاوروبي. الاسئلة اذاً معقدة لأنها بديهية واولية الى حد بعيد. وهو ربما ما دفع الرئيس الفرنسي السابق والرئيس الحالي لمؤتمر بروكسيل فاليري جيسكار ديستان، للقول ان نجاح المؤتمر في الخروج باجماع على ميثاق اوروبي موحد سيساعد اوروبا خلال "الخمسين سنة" المقبلة على تغيير دورها في العالم، بحيث تبدو جسماً سياسياً منظوراً كما هي حال جسمها الاقتصادي اليوم. وذلك على رغم كونه اكثر الاوروبيين استعجالا وحماسة لاعلان ميثاق موحد "للولايات المتحدة الاوروبية". وفي ذلك امارة اضافية على تعقد ما هو مطلوب من الاوروبيين انجازه بما يضع اوروبا امام امتحان تجاوز نفسها او لا، كإنجاز سياسي وثقافي. واذ اختار المؤتمرون يوم اطلاق اليورو كعملة اوروبية موحدة في اسواق 12 دولة من دول الاتحاد كلحظة رمزية وتاريخية وذات طابع تأسيسي لافتتاح جلسات مؤتمر بروكسيل، فإنهم وبلسان ديستان ايضاً استلهموا في الافتتاح اجواء مؤتمر فيلادلفيا عام 1787، حين كتب جورج واشنطن وجايمس ماديسون وآخرون ميثاق الولاياتالمتحدة الاميركية المستقلة حديثا عن الاستعمار البريطاني. وفي الحالين، اي اختيار التوقيت والاستلهام، يكمن حث شديد على مهمة يجاهرون بصعوبة انجازها ويهولون من خطورة عدمه. والخطورة بيّنة والصعوبة لا تقل سطوعا. فخط تماس الحرب الباردة ما عاد منذ زمن يمر في قلب اوروبا شاطرا برلين نصفين والأمة الالمانية الى نازعين. والاتحاد السوفياتي الذي في ظله ترسخت تبعية اوروبا للولايات المتحدة ما عاد موجودا ليبرر التبعية المتزايدة اليوم الا بوصفها نتيجة لوجود الاتحاد في يوم ما. وهما تغيران يتركان دولة كفرنسا نهبا لهواجس بزوغ فجر بروسي جديد يعيد اوروبا الى ما قبل نضوج حداثتها، نتيجة الهوى الالماني التوسعي والحاجة الروسية لتعويض ما خسرته بانهيار الاتحاد السوفياتي. وهو اذا ما اضيف اليه النازع البريطاني للعب دور الوسيط بين اوروبا والولاياتالمتحدة، ووجود جيب فقير من دول اوروبا الشرقية الطامحة الى دور وموقع ما في اللعبة الاوروبية بوصفها دولا سيادية راغبة في "التكامل"، بات يسعنا ان ندرك حجم المخاطر التي يتصدى الاتحاد لتطويقها. وليس خافيا ان ما سلف ذكره يرتبط الى حد بعيد بالاسباب الكامنة التي ادت الى حربين اوروبيتين عالميتين، وعلى رأسها تنافس الدول على الادوار. فليس صدفة ان الوعي الاوروبي للمصلحة في الاتحاد تبلور على ارضية استهوال مصائر التنافس واستفظاع مآلاته مع انصرام سنوات الحرب العالمية الثانية. واذا كانت الخطورة تكمن في اعادة اوروبا الى ما قبل نضوج حداثتها، فإن الصعوبة هي تماماً في قدرتها على تجاوز الحداثة وابرز انجازاتها المتمثلة بالدولة - الأمة. فمظاهرات برشلونة المعترضة على امكانية زوال دولة الرعاية والقلق الشعبي الاوروبي من مخاطر التنازل عن السيادة الوطنية لصالح الاندماج الاتحادي، كلها امور تتصل بصميم النقاش حول ما بعد الحداثة الاوروبية. اذ ما تزال الشعوب الاوروبية غير مقتنعة بأن مكاسب الاتحاد تفوق بكثير خسائر التنازل عن السيادة الوطنية، لا سيما في ظل عودة نجم اليمين الاوروبي الذي يفضل فكرة التعاون ما بين الحكومات على ما يراه قسرية اتحادية في المركزية الاوروبية. وليس ادل على ذلك من برامج الانتخابات الفرنسية ومن بعدها الالمانية خلال الاشهر المقبلة. فحملة جاك شيراك لم تتطرق الى فكرة الدولة الاوروبية الموحدة ولا الى رأي الفرنسيين بالامر الذي يناضل رئيسهم السابق ديستان من اجل حصوله عام 2003، اي الدستور الاوروبي المشترك. ومن جهته اكتفى ليونيل جوسبان بالبعد الاقتصادي الاجتماعي للتكامل الاوروبي باعتبار ما يحدث اليوم ليس الا حصيلة 57 سنة من الجهود التكاملية في هذا المجال. ومثل هذا يمكن سحبه على ايطاليا البيرلوسكونية كما على اسبانيا وايرلندا والدانمارك. واذ تحرص نسبة عالية من مواطني الدول الاوروبية على التمسك بفكرة الدولة - الأمة فيما تظهر ايجابيات التعاون والتكامل الاوروبيين، فإن الامر لا ينم هنا عن تناقض بقدر ما يؤشر الى وعي مصلحي يريد الاحتفاظ بما أُنجز في الدوائر القومية، ويتطلع الى وعود بما يمكن انحازه في دوائر فوق قومية. وفي صميم ما يراد حمايته بالنسبة للمواطن الاوروبي تقع مسألة الديموقراطية والمشروعية الشعبية للجهاز البيروقراطي التنفيذي في دوائر الحكم. فحتى الآن لا يزال الطريق الى مكاتب الاتحاد الاوروبي في بروكيسل هو طريق الديموقراطية والمشروعية الشعبية للجهاز البيروقراطي التنفيذي في دوائر الحكم. فحتى الآن لا يزال الطريق الى مكاتب الاتحاد الاوروبي في بروكسيل طريق التعيين، ما يجعل المسافة بين مؤسسات الاتحاد و"المواطن الأوروبي" في ازدياد دائم، وهو ما لم يتعوّده في دولته لعقود طويلة. واذا صح ان اوروبا تصارع هيمنة اميركية ضاغطة، فهي ايضاً تصارع نفسها وانجازاتها اولاً، اذ ان الدولة - الأمة تبدو اضعف من ان تقاوم هبوب العولمة كما يتفق، على الأقل، ثلاثة من كبار مفكري أوروبا آلان تورين، دومينيك شنابر، وبورغين هابرماز.