كانت أجواء تلك الأمسية في "المركز الثقافي الروسي" مختلفة، تبعث على الحنين لأزمنة خلت، وتوحي بقدر من الطمأنينة في مدينة موحشة ثقافياً، وانسانياً، ومدنياً، وسياسياً مثل بيروت. احتشد في صالة السينما شبّان وشابات، وخيّم على المكان مناخ يذكّر بعصور ذهبيّة بائدة، أيام كانت الجامعة مصنعاً للأحلام، والمستقبل حافلاً بالوعود... إنّها الأيام التي عرفها مارون بغدادي وجيله، ممن دخلوا الحرب الأهليّة بنشوة مشبوهة، وكانوا فيها شهوداً وأبطالاً وضحايا. ولعلّ السينمائي اللبناني الراحل الذي كان موضوع التكريم تلك الليلة، خير ممثل للمسار المعقّد والملتبس الذي عاشه ذلك الجيل، وخير معبّر عن سنوات الجنون والعبث، بتشعّباتها وتناقضاتها وتحولاتها، والفراغ التراجع؟ الهائل الذي أفضت إليه، على شتّى الصعد. وقد يكون موت بغدادي المفاجئ العام 1994، إشارة قصوى إلى ذلك الفراغ، وتتويجاً عبثياً له. "أيام مارون بغدادي" تظاهرة نظمها نادي "لكلّ الناس" بين 11 و13 آذار مارس، بالاشتراك مع نادي السينما في "المركز الثقافي الروسي". "لكل الناس" من الجمعيّات الثقافيّة - المدنية التي تحاول أن تشق طريقها في أدغال الجمهورية الثانية، سعياً إلى إيجاد أطر يمكنها احتضان زخم جديد لمقاومة الانهيار الشامل الذي يكاد يغيّب لبنان: "نادي اللقاء"، "نادي الساحة"، "الخط المباشر"... ومعظم هذه المؤسسات الأهلية يلجأ إلى السينما كفضاء ثقافي - سياسي لاعادة فتح الحوار على أشكاله. السينما والفيديو من النشاطات الأساسية ل"مهرجان شمس الثالث" الذي يعرض غداً 23/3/2002 في "مسرح بيروت"، فيلم سيمون بيتون عن عزمي بشارة، وحتى "سترانج فروت" النادي الليلي الذي افتتح أخيراً في الستاركو، ويتميّز بخيارات جمالية مميّزة، ينظّم كل إثنين عرضاً سينمائياً، وآخر ضيوفه كان الاسباني بيدرو ألمودوفار. ولعل تنظيم تظاهرة تكريميّة لصاحب "الرجل المحجّب"، من خلال عرض ثلاثة من أعماله "بيروت يا بيروت" 1975، "خارج الحياة" 1981، و"حروب صغيرة" 1982، ليس خياراً اعتباطيّاً، أو بريئاً. فإعادة اكتشاف أفلام بغدادي من جمهور كبر مع الحرب، ولا يكاد يعرف سوى صدى عبثيتها، والعواقب الثقيلة، غير الملموسة، الملقاة على كاهله... خير مدخل إلى مشروع طويل النفس، يمكن أن نسمّيه "أركيولوجيا الحرب الأهلية اللبنانية". هذا المشروع، نجد بعض ملامحه في أبرز الأعمال السينمائية والمسرحية التي أنتجت خلال السنوات الأخيرة في لبنان. هكذا تفرّج الجمهور، في الأمسية الأولى من التظاهرة، على فيلم "خارج الحياة" كتب بغدادي السيناريو مع ديدييه دوكوان وإلياس خوري، واكتشف فصلاً من فصول الحرب، من خلال قصة صحافي فرنسي هيبوليت جيراردو اختطفه مسلّحون في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، ونشأت بينه وبين زعيمهم علاقة غريبة وخاصة رفيق علي أحمد. العنف فجأة يعود إلى الواجهة، في حين أن الخطاب الرسمي يمعن في كبته وقمعه وإخفائه وتمويهه. في المناقشة التي تلت العرض بحضور الفنانين رفيق علي أحمد وسامي حوّاط، وشارك فيها عدد من الشبّان والشابات بلهفة، وحماسة، ونضج مثير، دعونا إلى ضرورة وضع مارون بغدادي في إطاره، أي تقديمه بصفته سينمائيّاً إشكالياً، تنقّل بين مواقع سياسية مختلفة، من تبنّي موقف "اليسار" آنذاك من تلك الحرب، إلى نظرة نقديّة للحرب تُراجع موقف اليسار بقسوة، فيما تتواطأ - برأي بعضهم - مع نظرة غربيّة اختزاليّة إلى واقعنا المعقّد. وذكّرنا أن مارون بغدادي ما زال غير مفهوم، سنوات بعد موته، في العالم العربي، حتى أن صحيفة قاهريّة بارزة نعتته قبل سنة واحدة بالسينمائي "الكتائبي الصهيوني" ! ما أثار في حينه حملة استنكار واسعة في القاهرةوبيروت على حدّ سواء. ولا شك في أن خطاب بغدادي الملتبس، ومساره المتعرّج وضع عنه ربيع جابر رواية، وابراهيم العريس وجوزيف سماحة كتابين الأوّل نقدي، والثاني سجالي، هو اليوم خير فرصة لمراجعة تاريخ الحرب الأهلية - وتاريخ السينما اللبنانية التي تتخبّط أبداً عند مرحلة البدايات. وأثارت مناقشة فيلم "خارج الحياة"، انقسامات وخلافات في الصالة. هناك من تعاطف معه، ومن دان ميله إلى تغليب وجهة نظر المشاهد الغربي. هناك من اختلف معه بقسوة، ومن أراد التذكير بأن الذين حملوا السلاح لم يكونوا كلهم "عصابات مسلحين"، بل مقاتلين من أجل قضايا عادلة. ونحن كنّا نستمع إلى تلك الأصوات الشابة التي تتلمّس طريقها في الجرح المفتوح: الحرب لم تنتهِ، أو بالأحرى لم نشفَ منها بعد... وربّما أقدمت السلطات الغيورة على "الوحدة الوطنية"، على منع أفلام بغدادي في المستقبل ! أم أن علينا الخروج باستنتاجات أخرى، بينها أن مارون بغدادي ما زال راهناً، وأنه كان بيننا تلك الليلة، وأن نكء الجراح هو الطريقة الصحية الوحيدة للعمل على شفائها؟