أثبتت تطورات الحوادث التونسية خطأ المراهنة على اجهزة الدولة في صنع التحول الديموقراطي واستعمال اجهزتها لحسم الصراعات الاجتماعية والسياسية ف"استئصال الأصولي" لم يكن سوى المقدمة لمطاردة وضرب "السياسي"، وتجميد الحراك الاجتماعي الى نقطة الصفر أو ما دونه، من خلال استراتيجية مراقبة وضبط حادة ليس لها مبرر موضوعي. وانتهت تلك الاستراتيجية اليوم الى تكفين السياسة بلحاف التقرير الأمني. وتوسعت دائرة العنف لتشمل يمين الخارطة السياسية بالبلاد ويسارها ووسطها. ولحقت حتى الأطراف التي شكّلت النصاب التعددي، والذي تأسست مشروعيته على قاعدة اقصاء الإسلاميين وبناء مجتمع مدني من دون "اللوثة الأصولية". فكان ضرب حركة الديموقراطيين الاشتراكيين، أولاً، بأيدي قلة من قيادييها، وثانياً بعصي الدولة، اعلاناً عن سقوط العمران السياسي الذي اقامته السلطة بعد اخراج الإسلاميين من ساحة الصراع السياسي. وأدركت الحركات السياسية يومها ان رحى القمع التي طحنت الإسلامي المتطرف استكملت دورتها بطحن السياسي المعارض بالعنف والحدة والقسوة نفسها. وأمام هذا القمع تراوحت مواقف المعارضة التونسية بين حدين، أولهما التنازل عن التاريخ والهوية ومقايضة الوجود بالصمت، والثاني دفع ضريبة الصمود من جراح التجربة المرة بعد الاقتناع ان ديناميكية التغيير لا يمكن ان تصنع إلا في مقابل التشكل القاهر. وعجزت الفاعليات والقوى والأطراف هذه، الى اليوم، عن تحويل الحراك على الملف الحقوقي الى استراتيجية سياسية تتجه نحو تعديل ميزان القوى لصالح المجتمع وقواه الحية. فبقي نضالها، في حواصله العامة، مشتتاً في مدار لحظات نضالية هاربة تمنّعت عن الانصهار في برنامج عملي يستجيب لمتطلبات المرحلة واستحقاقها. ولعل ذلك ما يفسر ضعف تفاعل غالب الجهات السياسية الأجنبية مع المعارضة التونسية للسلطة القائمة واهتراء شرعيتها في الداخل وتدني صدقيتها في العالم. فالمسألة الحقوقية، وإن كانت تؤسس للسياسي، غير انها ليست سياسة، وبقى جوهرها قيميّاً وليس اجرائياً. ولعل ما حدث في قضية الجنرال الشيلي، بينوشيه، ما يؤكد هذه الحقيقة. فقضيته، وإن تقاطعت مع السياسة فإنها عملياً بقيت في حدود القضائي والحقوقي، بل لاقت عملية ايقافه اعتراضات سياسية جدية تتصل بمشروعية الإجراء القضائي في حقه وعلاقاته بمفاهيم ومبادئ تأسيسية للقانون الدولي. والطابع الحقوقي للنضال الوطني، طيلة السنوات المنصرمة، حقق مطلوبه الأخلاقي في التعبير عن مأساة المتضررين من سياسة القمع، ولكنه ما زال بعيداً عن ملامسة "مطلوبه السياسي" في تحويل الديموقراطية من شعار عام الى استراتيجية متكاملة للعمل، وفي الانتقال من المعارضة الاحتجاجية الى معارضة بناءة تقر الواقع، وتستشرف البدائل الممكنة لتحريكه في اتجاه الاستجابة للمطالب المشروعة للتونسيين في بناء نظام سياسي مفتوح على التداول والمشاركة. إن حجم المشكلة التونسية لا ينعكس على سطح السلطة على قدر ما ينعكس على سطح العجز والارتباك الذي تعانيه قوى المعارضة الوطنية. وهو ما يستدعي ورشات حوار مستمرة حول مفردات هذه الأزمة وتداعياتها. فالتحول الديموقراطي المنشود لن يتحقق من دون وجود قوة سياسية واجتماعية ثانية ببلادنا، تقدر على تعديل موازين القوى القائمة، وتفرض على السلطة تقديم التنازلات المطلوبة لإحداث تحوّل في بنية النظام السياسي الأحادي. ومن دون ولادة هذا الطرف ستبقى المبادرة بيد السلطة حتى لو تحرّك الشارع. أمّا من يراهن على الجماهير، فإن تجربة الاجتماع السياسي الوطني بعد الاستقلال تثبت ان الشارع التونسي لا يمثل حلقة اساسية في قلب موازين القوى، وأنه في المرات القليلة التي نزلت فيها الحشود الشعبية محتجة الى الشوارع، سرعان ما رجعت الى بيوتها بأقل المكاسب وأكبر الأضرار. فالشارع ببلادنا لا يملك من تقاليد الاحتجاج المدني والسياسي - وهو حال الشارع العربي عموماً - ما يمكنه من فرض مطالبه، إما لضعف الوعي، أو لغياب التأطير، أو لمنزع اصلاحي عميق مترسّب في الثقافة السياسية ببلادنا. وهو ما يطرح على النخبة الوطنية والقوى الحية مراجعة حقيقية وعميقة لمنطلقات رؤيتها السياسية وبرامج عملها الميدانية. ويخطئ من يتصوّر ان حركة الاحتجاج المتنامية للمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية، والتشهير الإعلامي الواسع، والانتقادات الباهتة للحكومات الأوروبية او الاتحاد الأوروبي، ستكفي وحدها لإرغام النظام التونسي على التراجع عن سياسته، ولإعفاء التونسيين من القيام بمهامهم. فأولى وأوكد المهمات الملقاة على عاتق التونسيين، اليوم تتمثل في ادارة حوار شامل بين مختلف القوى الديموقراطية، من دون شروط مسبقة او احكام إقصائية، وعلى اساس البحث عن حقل مشترك لبلورة برنامج سياسي واضح ومتكامل الأبعاد. وتأجيل هذه المهمة بأي مبرر لن يكون إلا على حساب ابناء شعبنا وقواه الحية. باريس - د.احمد المنّاعي والأستاذ نور الدين خنزوش المعهد التونسي للعلاقات الدولية