أذعنت حركة النهضة التونسية لضغوط الشارع، وقبلت التنحي عن حكومة الترويكا حين ضاقت الخيارات أمامها، ولم يبق سوى أن تواجه غضب الشارع أو تستوعبه بقدر أقل من الخسارة، لكنها أدركت أن فيروس التمرد تمكن من النفاذ إلى المشهد التونسي وأن علاجه يتطلب جرعة قوية من النقد الذاتي. نصف خسارة أفضل، والتجربة المصرية ماثلة للعيان، حين يستعصي تقديم تنازلات متبادلة في الوقت الملائم. وكما انطلقت شرارة الربيع من تونس، عبر زلزال هز القلاع، فإن ارتداداته جاءت من مصر، في مثل التضاريس التي تنقل العدوى. وفي كيمياء السياسة ما يشبه تفاعل الطبيعة، إذ تتأثر بأي اهتزاز يقع على الخط والتوقيت ذاتهما. بيد أن الذهاب إلى طبيب أسنان لإزالة ضرس موجع من دون تخدير، أفضل من التعايش مع صداع مزمن، يمكن أن يمتد إلى أطراف أخرى في الجسم. بين التجربتين التونسية والمصرية قاسم مشترك، وهو أن المكاسب التي استطاعت الحركات الإسلامية أن تحققها في المعارضة، لدى ممارسة الاحتجاج والاستقطاب، لم تستطع الحفاظ عليها عند انتقالها إلى واجهة المسؤولية. ولا يعود ذلك إلى ثقل المشاكل وإكراهات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل إلى الخلط بين رهان الاستجابة لتوقعات ملحة ذات صلة مباشرة بحياة الجمهور، وفرضية بناء مجتمعات مغايرة بقيم ومواصفات أخلاقية كونها أقرب إلى عقلية التأثير في النفوس، لدى مواجهة إحباطات الواقع الاقتصادي والاجتماعي المنفر. غير أن ثقافة الاحتجاج التي عبدت الطريق أمام حركات إسلامية في الانتقال إلى ضفة الحكم تصبح محظورة على الغير، مثل الذي يرتقي على درج سلم إلى هرم السلطة ثم يرمي به كي لا يستخدمه آخرون. ومصدر متاعب الحركات الإسلامية أنها لا تتصور الاحتجاج بالترحيب، وإلا فإنه يندرج في سياق معاكسة الثورة والإصلاح. القمع الذي كانت تواجه به أنظمة استبدادية جموع المتظاهرين، يصبح جائزاً ومطلوباً بمنطق أنه يحمي الثورة. مع أن شكله وطبيعته واحدة لا تقبل أي احتجاج سلمي. ذلك أن ترفيع الأسعار مثلاً الذي أشعل فتيل انفجارات في بلدان عربية عدة، لا يتم التعاطي معه كمجرد تدبير طارئ أملته ظرفية اقتصادية ومالية، بل كقيمة يجب الإذعان إلى ضروراتها، لأن الحكومة التي أقرتها ذات لبوس إسلامي. ومثله تنسحب قضايا مماثلة في النظر إلى الحرية والإبداع وحدود النقد. ففي دولة الإسلاميين تسطر خطوط حمراء يحظر الاقتراب إليها. تنبهت حركة النهضة التونسية إلى أن الوقت لا يميل لفائدة الاستمرار في الحكم، من دون حيازة دعم شعبي. وأن التظاهرات الاحتجاجية التي تطالب بإقالة السلطة التنفيذية وتشكيل حكومة كفاءات تكنوقراطية ترعى الأشواط القادمة في الاستحقاقات الانتخابية، يمكن أن تمتد لاحقاً إلى ما هو أبعد من سقف الحكومة، ولا شيء يحول في المواجهات المنفلتة من دون أن تتدحرج مثل كرة ثلج. ومع أنها رغبت في اقتران استقالتها بالإبقاء على المجلس التأسيسي المكلف بوضع الدستور، فإن مخرجاً يبقي على تساوي حظوظ كافة الشركاء في الاستحقاقات القادمة، أفضل من مغامرة التمسك بالسلطة. قد يكون الجديد في حمل الترويكا على الاستقالة يرتبط في جانب منه بضغوط المؤسسات النقدية الدولية التي باتت تشترط ضمان مواصفات الاستقرار، وقد يكون للموقف علاقة بالوضع الذي آل إليه تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر، من دون احتقان موجة الغضب التي اشتعلت في السودان ضد حكومة تحسب على الحركات الإسلامية. من إيجابيات الربيع العربي أنه أقر القطيعة مع ثقافة الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع، لكنه وضع سقفاً عاليا أمام الحكومات والأحزاب المتنافسة. وما ينطبق اليوم على ردود الأفعال الغاضبة حيال تدبير الإسلاميين شؤون الحكم، أصبح نموذجاً لما ينتظر غيرهم. فقد يكون الفارق ذا علاقة بالمرجعيات الفكرية، أو بنزعات استطابت الاستئثار والاحتكار، خارج أطر اللعبة السياسية التي ترسمها خطوط التعددية. إلا أن الأهم أن تغييراً هائلاً حدث في بنيات المجتمعات العربية التي اكتشفت سحر الشارع، ولم تتذوق بعد طعم التدبير العقلاني للشؤون العامة. شرعية صناديق مالت، على خلفية الربيع العربي لفائدة الحركات الإسلامية، كما يحدث في حالات تجريب أدوية الصداع. لكنها قابلة لأن تتأثر بأي معطى جديد. وربما كانت شرعية التدبير أكثر رسوخا في تقويم التجارب. وفي الديموقراطيات العريقة يرتدي الاحتجاج بعداً إرادياً، إذ يصبح للصوت الانتخابي أثره في التزكية أو العقاب أو الإعراض. فذاك مقياس نضج التجارب وقابليتها للحياة في نطاق تداول طبيعي بدور، كما هي قوانين الحياة القائمة على المنافسة وحرية الاختيار.