شكلت نتائج الانتخابات التونسية، التي اتت بحجم كبير لحزب النهضة الاسلامي، فرصة لرفع الصوت المتشائم والمحذر من المستقبل الآتي على المنطقة العربية في الاشهر القادمة، خصوصاً في بلدان الحراك المتواصل. وهي دعوات تصدر من قوى انخرطت في الحراك وساهمت في الانتفاضات، كانت متوهمة ان مجرد النزول الى الشارع واسقاط رأس السلطة يعني نجاح «الثورة» والدخول في عصر جديد. بعيداً من الاوهام واليأس والاحباط، تشكل الانتخابات التونسية فرصة لنقاش متجدد حول الانتفاضات ومآلها. طرحت كل الانتفاضات شعار الاحتكام الى الديموقراطية واجراء انتخابات نيابية غير مزورة. ما حصل في تونس مسار على هذا الطريق، والدعوة الى الديموقراطية تعني تقبل نتائجها، سواء كانت لصالح هذا الطرف ام ذاك. السؤال في تونس وغيرها هو عن عوامل تصدّر الحركات الاسلامية وتحقيقها نتائج كبرى على صعيد التصويت، وما التحديات التي يطرحها هذا النجاح على الحركات الاسلامية نفسها، ولكن بشكل اكبر على القوى الديموقراطية والليبرالية. خلافاً لما يعتقد كثيرون ان الانظمة العربية تحارب الحركات الاسلامية او تضطهدها، فقد ساهمت سياسات هذه الانظمة في تغذية التيارات الاسلامية وتقوية نفوذها. تشددت مع هذه التيارات في ما خص سعيها للحلول في السلطة مكانها، لكنها اباحت لها المجتمع بأكمله، من طريق اتاحة الفرصة لها لنشر افكارها وثقافتها وسط جموع الشعب، وتأمين وسائل الاعلام المطلوبة لانتشارها، خصوصاً عبر تسليم الحركات الاسلامية للتعليم والتحكم بالمناهج التعليمية وتعيين الثقافة التي يجب ان تسود، والسماح بتدخلها في الحياة اليومية للمواطن، وفرض التشريعات المطلوبة لهذه الهيمنة. بل استعانت هذه الانظمة بالتيارات الاسلامية في المواجهة مع القوى الديموقراطية واليسارية، منذ عهد السادات وحتى اليوم، واستجابت في كثير من الاحيان لمطلب السلطات في قمع المنادين بالاجتهاد في الفقه وتحديث القوانين المدنية. يضاف الى ذلك ان هذه التيارات افادت من فشل السياسات الرسمية التي اوصلت البلاد الى اعلى مستويات الفقر والبطالة والحرمان، مما جعل شعارات التيارات الاسلامية التي قدمت نفسها طريق الخلاص والحل، شعارات مغرية للمواطن المحبط واليائس. لذا لم يكن غريباً ان تشهد المجتمعات العربية، من دون استثناء، انتشاراً قوياً للتدين الشعبي ذي الطابع الاصولي، وانحيازاً للقوى الاسلامية عبر الاقتراع لها بوصفها المنقذ من الحال السائدة. يمكن القول ان الانتفاضات في تونس ومصر وليبيا قد دخلت مرحلة «الجهاد الاكبر»، بعد انجاز المرحلة الاولى، بل الاسهل في مسار تغيير النظام. تقف القوى التي ستتصدر المركز السياسي، وهي على الارجح ذات طابع اسلامي، امام تحدي قبولها بالعملية الديموقراطية واستكمال مقوماتها. من الضروري التمتع بسوء الظن الدائم تجاه ما تضمره هذه التيارات من استخدام العملية الديموقراطية من اجل الوصول الى السلطة، ثم الغاء كل المظاهر المتصلة بالديموقراطية لجهة اتاحة العمل لسائر القوى والاعتراف بحقها في التعبير والتنظيم. لعل تجربة الجزائر والسودان تقدم نموذجاً على هذا النهج. لكن هذه الحركات الاسلامية ستكون امام تحدي مواجهة المعضلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلدان التي ستتبوأ فيها السلطة. اي ستكون امام تحدي تطبيق برنامجها السياسي ووعودها بالحلول السحرية. وهو مأزق من المهم رصد مفاعيله على هذه التيارات، بل والاهم رصده من قبل حركات المعارضة، لان السجال هنا ليس في الايديولوجيا، بل في المشاريع السياسية. ستشكل الممارسة السياسية لهذه التيارات فرصة كشف الاوهام، بما يشكل مادة خصبة للبرامج السياسية للقوى الديموقراطية، عبر تقديم البديل. نقطة اخرى ذات اهمية تتصل بمواجهة التيارات الاسلامية ومشاريعها السياسية، تنطلق من قبول التارات الديموقراطية بنتائج الانتخابات في المرحلة الراهنة وتهيئة نفسها للمراحل القادمة، من خلال تنظيم القوى وبنائها على صعيد الشعب، وتقديم الثقافة الديموقراطية والمدنية المواكبة لهذا التنظيم، اي تقديم برامج الحل الفعلي. لا يفيد هذه القوى الصراخ عن مصادرة الثورات او اغتيالها، بل المهم الافادة من الحراك وزخمه لبناء القوى اللازمة على الاض تمهيداً لانتخابات قادمة. في هذا المجال، يبدو من الاهمية بمكان ان تبقى القوى الديموقراطية مستعدة للنزول الى الشارع من اجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت على صعيد حرية الرأي والتنظيم والتظاهر، ومنع المساس بها او العودة الى قمع قواها. هنا المعركة المركزية ستشكل مفتاح المستقبل البديل عن القوى والتيارات الاسلامية. ان المناخ الرافض لأي عودة الى الديكتاتورية عنصر اساس في هذا البناء. فكسر حاجز الخوف والاستعداد للنزول الى الشارع، سيساعد القوى الديموقراطية على تنظيم قواها والدفاع عن برنامجها، بما لا يقاس عن فترة حكم الديكتاتوريات. سيكون على القوى الديموقراطية في المرحلة القادمة ان تمزج بين بناء القوى على الارض، ومناهضة المشاريع السياسية للتيارات الاسلامية وكشف زيفها وعجزها عن تقديم الحلول، ونشر الثقافة الديموقراطية والمدنية، مستفيدة مما تقدمه التقنيات الحديثة في وسائل الاتصال من امكانات ايصال الافكار الى كل ربوع البلاد. بعد الانتخابات، ستكون هذه الانتفاضات امام محطة اساسية تتصل بوضع دساتير جديدة. هذه المناسبة تشكل فرصة نادرة لخوض نضال سياسي وشعبي ضد سعي الحركات الاسلامية الى وضع قوانين تتوافق مع توجهاتها الايديولوجية، وتهدف الى اعادة الديكتاتورية عبر وجوه اخرى ووسائل اشد قمعاً من ديكتاتوريات الحكام السابقين. ليس هناك ما يدعو الى اليأس والتشاؤم من المآل الذي تسير فيه الانتفاضات. ان وعي الواقع الموضوعي لحال المجتمعات العربية وطبيعة البنى العصبية التي تتحكم بها، تساعد على فهم ما يحصل، والممرات الاجبارية العسيرة التي يمر فيها التغيير داخل هذه المجتمعات. ان ما حصلته الشعوب العربية من قدرة على مواجهة الاستبداد ومنع العودة الى المرحلة السابقة، عبر الاستعداد للنزول الى الشارع ودفع كلفة المواجهة، سيظل يشكل عنصر الأمل في ان يتحقق «الربيع العربي» في المستقبل، بما املت الشعوب العربية منه. * كاتب لبناني