شهد العقد الأخير من القرن العشرين ظهور روايات عدة في المملكة العربية السعودية. الروائي السعودي عبده خال يعرض في هذا المقال للمشهد الروائي السعودي الآن، مستعيداً تجارب اولى اعتمدت "تغريب المكان وترحيل البطل"، ومسلطاً الضوء على آفاق ممكنة لتطوير هذه الرواية، عبر اكتشاف خصوصية المكان وجمالياته: انطلقت الرواية السعودية في منتصف التسعينات متداخلة مع الهم اليومي ومكتسبة هامشاً أوسع مما كانت عليه قبل ذلك، حتى ظن كثيرون ان سنوات الجدب الروائي عبرت، وجاءات مواسم الأمطار، جاءت فصول المعرفة الروائية، والدخول الى عوالم لم يكن يسمح بالعبور في مسالكها. هذه الخطوة الروائية ربت يقيناً خصباً جال خواطر المتابعين في أن أقدام الرواة ستعبر فيافي الأزمنة التي عبرت الجزيرة العربية وتتحول اصوات الرواة الى مكتشف اثري للوجود الإنساني الذي شكل تلك المساحات من الأحداث والصمت ايضاً، وربما قاد ظهور الرواية في تشابكاتها اليومية - في منتصف التسعينات - الى الاستبشار بالتواصل مع المتلقي الذي يرغب في تسجيل حياته اليومية عبر هذا الفن الشيق، كل هذه الأماني كانت مصاحبة لتلك الانطلاقة. إلا ان المتابع للمشهد الروائي السعودي اصيب بالفتور لبقاء ثلاثة اصوات أو أربعة تسير على خشبة المسرح وتسترجع روايتها الأولى بصيغ مختلفة، من غير ان تتدفق اصوات روائية يمكن لها ان تخلق التلونات الروائية المهمة، وأخذ المتابع يتلفت يميناً ويساراً باحثاً عن صوت يضاف الى تلك الأصوات إلا ان كل الالتفاتات كانت تشير الى شارع قفر. إذ لم يتمكن كتاب القصة - الى الآن - من اقتحام هذه العوالم واكتفوا بالمراقبة والإشارة الى جودة او رداءة اعمال الأربعة الذين يشكلون المشهد الروائي، كحكام مهمتهم اقتناص لحظة الإصابة في مبارزة بطيئة وذابلة. فإلى اي جهة يمكن تصويب اشارة الاتهام لتباطؤ المشهد الروائي في المملكة: - هل يمكننا اتهام كتاب القصة الذين أحجموا عن الدخول الى هذه العوالم؟ - هل يمكن ايجاد ملجأ في كون هذه الروايات التي أنتجت لم تدخل الى البلاد ولم يطلع عليها إلا القلة وبالتالي لم تخلق اجواءها التفاعلية وظلت سادرة في الغياب. - وهل يمكن تحميل الصحافة تهمة التباطؤ لكونها رسخت في ذهنية المتلقي ان الذي كتب من روايات لم يتعد السيرة الذاتية وأن زمن الرواية السعودية لا يزال غائباً ويحتاج الى وقت مضاعف لخلق اجواء روائية تنبع من ارضية هذا الفن وليس من خلال علاقات انسانية عبرها الكاتب - الكاتب الروائي الحالي - ليكتب سيرة ذلك العبور. وتهمة ان ما كتب ما هو إلا سيرة ذاتية ادى الى عزوف كثير من الكتاب عن كتابة العمل الروائي خشية من إلصاق تهمة السيرة الذاتية على العمل ما يسبب حرجاً اجتماعياً للكاتب حين يتطرق الى سلبيات صارخة في حياة شخوص عمله الروائي وبالتالي آثر كثيرون السلامة وفضلوا الصمت على البوح في مجتمع لا يزال يقرن الأحداث الروائية بشخوصها ويحمل الروائي سلبيات ابطاله ويحاكمه اجتماعياً لما تلفظ او فكر به ابطال العمل الروائي. وربما أدى ذلك الى خلق معوق روائي جديد في نسيج الرواية السعودية مضافاً الى أشهر معوقين لازما هذا الفن، فمن اهم الإشكاليات التي واجهت الرواية السعودية خلال السنوات البعيدة والمقترنة بزمن النشوء تمثلت في تغريب المكان وترحيل البطل. فكانت من اولويات الروائي البحث عن مكان خارج البيئة وذلك من اجل النفاذ من الحواجز الاجتماعية التي تسفه وجود ابطال يتواصلون بصورة طبيعية وللخروج من مأزق المجتمع او الرقابة التي تمثل هذا المجتمع، وهكذا جرى تهجير ابطال الرواية الى ارض اخرى كلبنان أو مصر كما فعلت سميرة خاشقجي او ابراهيم الناصر أو حامد دمنهوري وفي هذه الأعمال خلط بين مفهوم المكان والتلون الذي يصبغ به افراده، وما أحدثه الروائيون الأوائل كان مخرجاً لهم ومأزقاً فنياً في الوقت نفسه. فثقافة الأبطال لا تتوازى مع حركية المجتمع الذي وجد فيه ابطال العمل، وبالتالي التسليم بسطوة المكان والسير ضمن ثقافته كما حدث لرواية "بريق عينيك" لسميرة خاشقجي، ويصبح رد فعل المجتمع الذي تنتمي إليه سميرة خاشقجي رافضاً لصوغ افكار افراده بهذه الصورة وهنا حدث تغريب لشخوص الرواية. فهل تكون مهمة الروائيين الحاليين توطين البطل واستعادة ارضية المكان على حساب غياب المعرفة الروائية؟ وهل يمكننا الوقوف عند هذه النقاط الثلاث لمحاكمة اسباب ندرة الكتّاب الروائيين السعوديين ام علينا ان ننقب عن الأسباب الحقيقية لاختفاء الأصوات السردية ولتتبع خيط التقاعس والتهيب لدى كاتب القصة من الدخول الى عوالم ضخمة يمكن لها ان تكشف ضآلة تجربة كتّاب السرد وتقشع عنهم الألقاب والأوسمة التي حملوها طوال عقود من خلال تقديم نصوص قصصية يمكن في كتابتها التحايل على الجانب الفني بالصور الشعرية وبحجة ان القصة هي لحظة خاطفة لا تستوعب التداخلات وتحميل عود النص بنياناً يفوق مقدرته على التحمل. او علينا متابعة تلك الحجج التي كانت تبرز دوماً كلما ارتفع سؤال عن غياب الرواية السعودية فنجد الجواب يحمل صوراً عدة اهمها: فقر الواقع الذي لا يستطيع خلق مناخات روائية متقدمة، وضيق مساحة التسامح من قبل المجتمع في تقبل النقد الاجتماعي وتعرية الواقع بمشرط فني حاذق، كتابة التجربة في حاجة لهضم المتغيرات المتلاحقة وصوغها صوغاً فنياً. وفي ظني ان هذه الحجج سقطت ولم تعد المرهم الذي يسكن به كتاب السرد خواطرهم فمعظم كتاب القصة هم ممن قارب الخمسين عاماً - وبعضهم رحل عن هذا العمر منذ سنة او سنتين - وهم ما زالوا يحملون صفة الكتّاب الشباب، إذا كان هذا العمر لم يستوعب ويهضم التغيرات التي مرت بالبلد فمتى يمكن هضمها واستيعابها وتقديمها فنياً!! كما ان مقولة فقر المجتمع هي مقولة ظالمة. فأي مجتمع مهما بلغت سكونيته يحمل في تلك السكونية جماليات فنية تتحول الى بؤرة لانطلاق اعمال روائية مغايرة في جمالياتها لتلك الأعمال التي تكتب عن المجتمعات المتحركة والمتفاعلة. وفي هذه السكونية يمكن تحقيق المعرفة الروائية لمجتمع ظل غائباً لزمن طويل عن الأدبيات العربية، وتقديمه لسكونية المجتمع. هو اسهام في خلق جزئيات مكانية تضاف الى الفضاء المكاني في الرواية العربية. فيمكن لكل روائي خلق جماليات المكان وفق مساحته الزمانية والتشكيلات الاجتماعية. فكما يقدم لنا ابراهيم الكوني جماليات الصحراء في ليبيا، وكما نشهد ضجيج المكان عند ابراهيم نصر الله، وتناغمات السودان عند الطيب صالح، وسحر موريتانيا عند موسى ولد ابنو، نجد ان هذه التنويعات المكانية هي تضفيرات وزخارف جمالية تخلق ألواناً متمايزة للمكان السردي العربي، بمعنى خلق جماليات البناء في الرواية العربية. ومن هنا يصبح لكل مكان جمالياته التي تجعلنا متيمين بالتعرف على اجواء طقسية كما كتبها احمد ابو دهمان على سبيل المثال او محمد البساطي. وأتصور ان الروائي السعودي يمتلك فضاء مكانياً أشبه بمواقع الغابات الاستوائية التي لم تكتشف بعد، وحين يكتب عن هذا المكان سيكون ساحراً. فظهور الغائب يشكل دهشة للحاضر. كما ان المجتمع الباعث على التحرر لم يعد كسابق عهده. فمع الثورات المتواصلة للاتصال تم حلحلة المواقف المتعصبة ولدت فئات متنوعة تتقبل النقد وتدخل في حوار مع الأعمال الفنية المجسدة لمجتمعها، ومهما كانت ضئيلة هذه المجموعة إلا انها هي النواة المقبلة للتفاعل مع الأعمال الفنية، خصوصاً عندما تقف على الأرقام. فالتعداد السكاني في المملكة يشير الى ارتفاع نسبة الشباب، هذا الارتفاع النسبي في تعداد السكان لمصلحة فئات عمرية صغيرة يعني ان ثمة مجتمعاً يتخلق وفق رؤى ليست منطبقة مع التفكير السابق وهذا يحمل الكتّاب مسؤولية اخرى تتمثل في خلق قاعدة ادبية لاستقبال الأجيال المقبلة وخلق تراكم جمالي فني لكي يغدو قاعدة انطلاق للقادمين. فلا تتكرر مشكلة الجيل الحالي الذي ينفي وجود اساتذة له من الرواد السابقين، ويصر على انتمائه الى مدارس غربية او التأثر بتجارب عربية في مجالات الشعر والسرد، وحجتهم في ذلك ان الذين سبقوهم من الكتاب لم يؤسسوا قاعدة جمالية يمكن الانتماء إليها والبناء عليها، وبسبب هذه الدعوى يرى البعض ان تأخر ظهور الرواية في شكلها الحديث كان أحد اسبابه الجوهرية غياب النموذج المثالي في تجربة الرواد الأوائل في الرواية السعودية. وفي شكل تقريري صارم أذهب الى القول ان المشهد الروائي السعودي - الآن - يسير وفق الممكن، يسير مرتهناً لتلك التجارب المحدودة من غير ان تضخ كل الأصوات القصصية تجاربها السردية في قوالب تمكن هذ التجربة من خلق التراكمات الفنية لخلق التمايز والتحفيز للتغلغل الى المدهش وإخراج تلك الشخصيات الروائية التي يمكن لها ان تضاهي شخصيات الرواية العربية المتقدمة.