من المؤكد ان اياً من فناني عصر النهضة الإيطالية، لم ينفق من ايام عمره وطاقته وقدراته الإبداعية ما قصره على إنجاز الأعمال الدينية الخالصة قدر ما فعل ميكائيل انجلو، الذي يوضع الى جانب ليوناردو دافنشي في الصف الأول بين فناني كل الأزمان وكل الأماكن. فنحن إذا تصفحنا اليوم اعمال هذا الفنان الكبير، سنفاجأ بأنها كلها اعمال دينية، تمثل مشاهد تنتمي، بخاصة، الى تاريخ الإيمان المسيحي، بحكاياته الكثيرة، وشخصياته المتنوعة. كما اننا نعرف ان الإنجاز الأكبر لميكائيل أنجلو كان رسمه لحكاية الخليقة كلها، منذ البدايات حتى النهايات، على سقوف كنيسة سستين في الفاتيكان، والتي تعتبر من الناحية الفنية، واحداً من اعظم انجازات الإبداع البشري على الإطلاق. لقد عاش ميكائيل انجلو حياته كلها في عالم الفنون الدينية التي نادراً ما غادرها بعض الشيء ليحقق، كما كان يفعل زملاؤه ومعاصروه - من امثال رافائيل وليوناردو - اعمالاً دنيوية. وليس هذا لأن صاحب "حكاية الخليقة" لم يكن يؤمن ان ما في الحياة الدنيا، وفي حياة الإنسان، يستحق ان يرسم او ينحت، بل بكل بساطة، لأن ميكائيل انجلو كان يرى انه إذا كان قد حقق اعظم الرسوم الدينية في زمنه، فإنه إنما رسم ونحت الإنسان أولاً وأخيراً: عبر عن وجود الإنسان في العالم، وعلاقته بالغيب، محاولاً ان يجعل من فنه طرحاً دائماً لأسئلة لا تنتهي حول مصدر وجود الإنسان، ومصب هذا الوجود. والحال ان ميكائيل انجلو، عبر عن هذا الأمر، وإن في شكل موارب، من خلال تمثالين نحتهما خلال مرحلة متوسطة من حياته، لا ينتميان الى الفن الديني، ويوجدان حالياً في متحف اللوفر الفرنسي، علماً انه من النادر ان يعثر على اعمال لهذا الفنان خارج ايطاليا، بل خارج الفاتيكان نفسه. فأعمال ميكائيل انجلو هي من الثبات بحيث لا يمكنها، رسوماً أو منحوتات، ان تغادر اماكنها التي وضعها فيها الفنان اصلاً. اما التمثالان اللذان نعنيهما هنا فهما "العبد المتمرد" و"العبد الميت"، وهما نحتهما ميكائيل انجلو معاً، بين العامين 1513 و1516، أي بعد موت البابا جيوليوس الثاني الذي كان حامي ميكائيل انجلو وراعيه وموصّيه الأول على الأعمال التي حققها خلال الفترة السابقة على ذلك من حياته، وبعد ان انتخب البابا التالي ليون العاشر ابن لورانزو دي مديتشي للسدة البابوية في العام 1513. فهل ثمة علاقة بين هذين الحدثين، وبين انصراف الفنان بعض الشيء عن الأعمال الدينية لينهمك في نحت تمثالين لعبدين؟ نعم، يجيب الباحثون الخبراء على هذا السؤال. ويوردون في هذا السياق حكاية تبدأ احداثها في العام 1505، ففي ذلك العام طلب البابا جوليوس الثاني من ميكائيل انجلو ان يصمم له قبراً يرتاح إليه بعد موته، سائلاً إياه ان يجعل القبر فخماً وذا دلالة على حياته. وبالفعل انصرف الفنان الى وضع التصميم ثم بدأ ينفذه. ولأن الفنان كان يدين، في مجال حرية ابداعه، بالكثير الى ذلك البابا المتنور الذي رعى الفنون، فأعطاها في زمنه حرية ما بعدها من حرية، هي نفسها تلك الحرية التي مكنت بعض فن النهضة من ان يعيش انطلاقته المذهلة، التي لا تزال الى اليوم تعتبر البداية في انسنة الفن، وفي التحري عن موقع الإنسان في الكون، وفي التطور الهائل الذي طرأ على الحياة الاجتماعية والحياة الإبداعية والفكرية، على صعيد ايطاليا وأوروبا كلها وربما العالم من جراء ذلك. فما العلاقة بين كل هذا، وبين البابا وبين التمثالين اللذين نحن في صددهما؟ العلاقة تكمن في ان "العبد المتمرد" و"العبد الميت" صممهما ميكائيل انجلو أصلاً لكي يكونا ضمن إطار المنحوتات الملحقة بقبر جوليوس الثاني. وتقول اكثر النظريات صدقية في هذا المجال ان ميكائيل انجلو كان يريد التعبير بالتمثالين العبدين عن الفنون الحرة، وبالأحرى عن حرية الفنون. ف"العبد المتمرد" هو ذلك الفن الحر، الذي في انطلاقته كان ازدهار فن النهضة، بل كان يمكن للفن النهضوي ان يقوم. من هنا فإن "العبد المتمرد" كان ذلك الفن الذي قام ليقاوم ضروب الكبت والقمع التي كانت الكنيسة والمجتمع بالتالي، يفرضانها على الفنون كافة، فإذا بالبابا المتنور يأتي - حسب رأي ميكائيل انجلو - ليعطي الفن/ المستعبد سابقاً، حريته. لكنها، وكما تشير ملامح التمثال، لم تكن حرية سهلة من النوع الذي يمنح من اعلى، بل ان دور البابا المتنور كان مجرد دور يعطي الضوء الأخضر، اما العبد فكان عليه ان يناضل ويكافح ويتمرد حتى يحصل على حقه في ان يكون حراً، وحقه في ان يوجد. وبالنسبة الى الفنان تواصل ذلك النضال طوال العصر الذي كان فيه البابا حياً، ومن دون ان يعني ذلك ان المعركة في حد ذاتها قد رُبحت، فبالنسبة الى الفن، المعركة تتواصل. والتمرد هو أداتها، والتجدد هو هدفها. ومن هنا فإن "العبد المتمرد" لا يبدو خارج معاناته، بل ان ملامحه وحركة جسده وكل تفاصيله تنم عن مواصلته الكفاح في سبيل حرية يستحقها، لكنه لن يصل إليها ابداً. ولكن، على العكس من دينامية "العبد المتمرد" ومعاناته، يأتي التمثال الثاني "العبد الميت" من دون دينامية على الإطلاق. ومن دون معاناة، مستكيناً الى مصيره. فما هو هذا المصير؟ إنه الموت: لقد خاض العبد معركته وخسرها. ومن المؤكد ان ميكائيل انجلو لا يمكن ان يعني بهذا ان حرية الفن قد ماتت، وأن العودة الى فنون - ما- قبل- الإنسانية بات محتمة. إنه يعني فقط، وبالأحرى، ان موت البابا انما هو هزيمة لحرية الفن، وموت للمارد العبد الذي كان البابا، بتنوره وبإيمانه بدور الفن حتى في الربط بين الإنسان والإيمان، يشكل نكسة وموتاً لذهنية متفتحة. بقي ان نذكر ان هذا التفسير لم يتحدث عنه الفنان ابداً، كما انه لم يبد اية شكوى ازاء واقع ان القبر بني اخيراً، ودُفن فيه البابا، من دون ان يضم التمثالان المذكوران إليه. وهكذا حاز هذان على استقلاليتهما، تلك الاستقلالية التي فصلتهما عن معناهما الأصلي، وحولتهما الى لغز، في حياة هذا الفنان وعمله، يحتاج الى حل. ومهما يكن فإن هذين العملين ينتميان الى أروع ما حققه ميكائيل انجلو خلال مساره المهني، ويوضعان في مستوى واحد مع عمله الأكبر "حكاية الخليقة" كما مع منحوتاته العظيمة مثل "موس" و"دافيد" وسواهما. ولد ميكائيل انجلو بوناروتي في مدينة كابريزي العام 1475. وهو تلقى دروسه الفنية الأولى في محترف غيرلاندايو، ثم انصرف ليعيش ويعمل في قصر لورنزو دي مديتشي. وبين 1494 و1495 زار البندقية وبولونيا، ثم انتقل لاحقاً الى روما. وفي العام 1498 ظهر عمله الأول عن القديس بطرس الذي تبعه في العام التالي تمثال السيدة العذراء والسيد المسيح، الذي لا يزال حتى اليوم يعتبر من أقوى اعمال ميكائيل انجلو وأجملها. وكان ظهور هذا العمل كافياً لإطلاق شهرته، حيث وضع نفسه تحت رعاية البابا جوليوس الثاني، وراح هذا يكلفه انجاز اعمال هي التي سوف تخلّده لاحقاً، ومن بينها جداريات كنيسة سستين وسقوفها. وعلى رغم رحيل جوليوس، ظلت للفنان مكانته وظل آل مديتشي يرعونه ويكلفونه بأعمال كبيرة ومنها تصميم ضريح العائلة 1519 ثم قبر لورنزو، ومكتبة لورنزيانا في فلورنسا. وفي العام 1534 كلف بتحقيق جداريات "يوم القيامة" ثم عين في العام التالي كبيراً للمهندسين والرسامين والنحاتين في البلاط البابوي، وهو لم يتوقف مذ ذاك عن العمل، هندسة ونحتاً ورسماً حتى رحيله في العام 1564.