في لحظتين متقاربتين من بداية هذا العام احتفل الأكراد بمناسبتين تتعلقان بذكريي زعيمين من زعمائهم. قسم من أكراد العراق استعاد ذكرى وفاة زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني، مصطفى البارزاني، الذي رحل عن هذه الدنيا في واشنطن عام 1979. وهو كان اضطر الى الاستسلام وطلب من اتباعه إلقاء السلاح أمام زحف القوات العراقية بعدما توقف الشاه رضا بهلوي، الايراني، عن تقديم الدعم له في اثر اتفاقية الجزائر مع صدام حسين. قسم آخر من أكراد تركيا تذكر لحظة اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان الذي اصطادته الاستخبارات التركية في نيروبي، عاصمة كينيا، عام 1999. وهو كان اضطر الى ترك مستقره الدائم في دمشق، ثم تاه في عواصم عدة قبل ان يقع في المصيدة التركية. ليس من شيء، تقريباً، يجمع بين مصطفى البارزاني وعبدالله اوجلان. لقد بقي البارزاني، على الدوام، رجلاً محافظاً، يحترم التقاليد والأعراف ويحافظ على القيم الدينية وروابط العشيرة والعائلة. وهو لم يشتط في مطالبه بحيث لم يتجاوز حدود الاعتراف بحق أكراد العراق في حكم ذاتي داخل حدود الدولة العراقية. اما اوجلان فقد نهض ستالينياً وتمرد على المحيط الاجتماعي والعائلي وحثّ اتباعه على مطاردة الآغاوات ورجال الدين. وهو صاغ مطلبه على هيئة دولة اشتراكية كبرى تضم كل أجزاء كردستان واتهم من يخالفه في هذا الشأن بالخيانة. ومع هذا، فإن الاحتفالات بالزعيمين جرت على نحو شبه متطابق ومورست الطقوس والشعائر نفسها، وألقيت على المسامع خطابات وأقوال متشابهة. لقد وصف كل طرف زعيمه ب"الأب الروحي للأمة الكردية"، واتفق الجانبان على انه لو لم ينهض زعيم كل منهما ليقود "الحركة التحررية الكردية"، لكان التاريخ قذف بالاكراد في غياهب النسيان. وهبّ مثقفون، من كل جانب، يكشفون عن الخصال الفذة في كل زعيم ويخرجونهما من النطاق البشري ويضعونهما في مصاف القديسين والأساطير. واتفق المحتفلون، ايضاً، على ان الزعيمين، كل من جهته، انما يمثلان "رمزاً للشعب الكردي"، واي هجوم عليهما، أو انتقاد لهما، هو هجوم على الشعب الكردي كله. وفي أربيل، حيث يحكم أبناء البرزاني وأحفاده وأنصاره، جرى تحويل المناسبة الى استعراض باذخ "للولاء" الذي يكنه الشعب للزعيم الراحل، وتعلق الناس ب"نهجه التاريخي". وتم تنظيم مسيرات حاشدة الشبيبة، العمال، تلاميذ المدارس، النساء، الفلاحون، أتباع الطوائف الدينية... الخ وحمل الجميع صور الزعيم وباقات عملاقة من الزهور. أما في العواصم الأوروبية، حيث ينتشر أتباع حزب العمال، فقد أعيد للاذهان الاخلاص الأعمى الذي يكنّه هؤلاء الاتباع لزعيمهم أوجلان، والولاء الذي يصل الى حدود العبادة. ودعا الممسكون بزمام الحزب، ومنهم شقيق أوجلان، الى قيام الاتباع بارتداء اللباس الاسود والامتناع عن الأكل والشرب والخروج في مسيرات صاخبة تحمل صور الزعيم القابع في سجن تركي. ولو ان أي عابر سبيل توقف لحظة ليراقب الاحتفالات ويتمعن في شكل تنظيمها واسلوب اطلاقها وطراز اخراجها، لتذكر من فوره الاحتفالات المهيبة التي ينظمها حزب البعث العراقي في ذكرى ميلاد أو تنصيب زعيمه صدام حسين. وفي الحالات جميعاً تطغى سمة أساسية على هذه الاحتفالات، وهي تصنيم الزعيم وتأليهه وتحويل الناس الى قطيع مبرمج يصفق وينشد أو يبكي وينوح في حال الوفاة. والمقادير الهائلة من المال التي تنفق على هذه المظاهر المخيفة، من تماثيل ولافتات عملاقة وصور مؤطرة وباقات ورود وولائم وأطعمة، تكفي لسدّ حاجة أعداد كبيرة من الناس الذين يتوهون في الشوارع بحثاً عن لقمة خبز. هذا من دون ان نذكر ما يصيب حياة الناس من شلل فتتوقف المصانع وتقفل المدارس والجامعات ويُسخر كل شيء لتنظيم هذه الظواهر المخجلة التي تشبه هذيان القبائل البدائية في الأدغال حيث يرقص الناس في دوائر حول طواطم يعبدونها. كان مصطفى البارزاني، وكذلك عبدالله اوجلان، كائنين أنسيين نجحا في أشياء وأخفقا في أشياء أخرى. وقبل الاثنين حدثت تمردات كردية كثيرة قادها زعماء أعدموا أو سجنوا أو أرسلوا الى المنافي. مع هذا فلا أحد يتذكرهم. لقد احتفل الناس بالزعيمين، وعلى هذا الشكل المشهدي، لأن لهما أنصارا يمارسون السلطة المدعومة بالقوة. وككل سلطة في المناطق المتخلفة يُرفع الزعماء الى السماء ويُحرم تناولهم بالنقد والمساءلة. بل يُحرم مجرد اعتبارهم بشراً يخطئون. وليست الاحتفالات غير طقوس في العبادة وإشارة الى الخلود والتسلط. فمن لا يحتفل بذكرى الزعيم الخالد تجرفه الجماهير الهادرة وتطرحه جانباً.