فتح معرض بروغل في "المتروبوليتان" نيويورك نقاشاً حول علاقة الفن بالتاريخ والسياسة. الفنان الفلمنكي الذي عاش في القرن السادس عشر يبدو معاصراً في هذه اللحظة. ودعت نيويورك العام الفائت بهذا المعرض. لكن بروغل يسيطر على مخيلة كل من يرى لوحاته. التاريخ والجغرافيا بريشة فنان صاحب حدس ورؤيا. بيتر بروغل الكبير 1525 - 1569 يعاد اكتشافه كلما هبطت الكوارث على مدن البشر. بعد شهر واحد من 11 أيلول سبتمبر استقل الروائي الأميركي جون أبدايك طائرة حملته من بوسطن إلى نيويورك: أتى كي يتفرج على أطلال مركز التجارة العالمي، وأتى كي يتفرج على لوحات بروغل في المتروبوليتان. ما نعرفه عن حياة بروغل قليل. نعرف انه زار ايطاليا. نعرف انه كان يعمل في أنتورب حيث رسم معظم لوحاته في ستينات القرن السادس عشر. ونعرف انه عاش في زمن ازدهار واضطراب وصراع وحروب دينية. تاريخ ميلاده يشوبه غموض. ربما ولد عام 1525، وربما ولد عام 1526. لكن المؤكد انه نشأ في بلاد كانت تعرف ازدهاراً تجارياً حوَّل مدينة انتورب برج بابل القرن السادس عشر. في هذه الدوامة العاصفة من الأصوات، في نقطة لقاء تجار العالم من الشرق والغرب، انفجر اضطراب ديني مذهبي: جيوش زحفت من اسبانيا الكاثوليكية وارتكبت مجازر في أراضي أوروبا الواطئة حيث يقيم البروتستانت. بروغل، الفنان الحاضر في قلب هذا العنف الذي لا يرحم، قدم شهادة تاريخية بصرية في لوحات لا يؤثر فيها وقتٌ. تردنا لوحة "انتصار الموت" 1562 الى لوحات جيرونيم بوش. الجحيم على الأرض أيضاً. حصان الموت يعدو، ومعه جيش هياكل عظمية. الدمار لا يُوفر أحداً. في "مذبحة الأبرياء" يلجأ بروغل الى تصوير قصة من "الكتاب المقدس". لكن الاستعارة واضحة: هذه مذابح الاسبان في بلاده. الأرجح ان اللوحة تعود الى عام 1567. والمشهد كما في لوحات بروغل جميعاً يصور عناصر الطبيعة في الأراضي الواطئة. قرى هولندية، ثلج يغطي الأرض، أشجار عارية من الورق، وسماء خضراء تضرب الى زرقة قاتمة. في "انتصار الموت" يصدر الرعب عن تفاصيل قلما تظهرها الكتب الفنية. تفاصيل تختفي في اللوحة وسط حشود خطوط وعلامات. يصعب احصاء عدد الشخصيات في لوحات بروغل، جيوش كاملة تتجول في لوحاته. الفلاحون يتكاثرون كالجراد في اسطبل يرسمه بكل علامة في خشب سقفه وطاولاته كأنه يصوره فوتوغرافياً. منظر العربة المحملة بالجماجم في "انتصار الموت" لا يُنسى. شخصيات تتساقط. كلب يتجول بين الجيف. فارس يستلقي على ظهره في رداء أحمر ودرع معدني. توابيت مفتوحة، طاولة دائرية بغطاء أبيض، ومشانق. في الأخاديد، في خلفية اللوحة حيث تنتشر تلال، نرى جيوش موت أخرى آتية. مقابل كل هذا الموت هذه الشهادة على رعب التاريخ نرى في لوحات أخرى لبروغل، الوجه الآخر للتاريخ. نرى الحياة اليومية والاحتفاء بطقوسها البسيطة. حياة الفلاحين وأهل الريف في عملهم ولهوهم. في "العرس" و"عودة القطيع" 1565، و"حصاد الذرة" 1565، و"شهر يوليو"، و"يوم معتم في فبراير"، و"الصيادون في الثلج"، و"ألعاب الأولاد" 1560، و"رقصة الفلاحين" 1568، يصنع بروغل مجداً: يكفي الواحد ان ينظر الى هذه اللوحات كي يجد نفسه في عالم آخر، في أوروبا القرن السادس عشر. عالم خيالي يشبه عالمنا ويختلف عنه. عالم يبدو - بينما ننظر اليه - حقيقياً أكثر من عالمنا.