من المؤكد أن بروغل لم يكن ليقل ارتباطاً بالمدينة عن الرسام الفلامندي الآخر روبنز. ولكن بينما ظل هذا الأخير، في حياته كما في رسومه مرتبطاً بحياة القصور والمدن، معبراً حين يبتعد عن هذه الحياة، عن الأفكار والأساطير والمواضيع الدينية، ودائماً بأسلوبه المنمق الفاتن، فإن بروغل غاص في حياة الريف، وغاص فيها الى درجة انها سيطرت على القسم الأعظم من رسومه، والى درجة اعتبر معها كثيرون انه كان، أصلاً، ابن ريف، بالكاد عرف شيئاً عن المدينة. والحال ان استعراضاً لرسوم بروغل الباقية، سيقول لنا ان هذا صحيح، لكنه ليس صحيحاً، فهو كان ابن مدينة أيضاً. لكن اختياراته الفنية والتعبيرية وجهته صوب الريف. وهكذا، كما تقول لنا سيرته، كان لا يكف عن التجول في الريف، أحياناً لوحده وأحياناً مع أصدقاء له، وهناك كان يعيش حياة الريفيين مطلعاً عليها عن كثب، ويعيش همومهم في أدق تفاصيلها. من هنا، اذا كان روبنز، حين رسم الريف، في لوحات نادرة له، لم ير فيه، بنظرته الخارجية، سوى ذلك الالتحام الأنيق والجزل بالطبيعة، ولم ير في ملاهي الريفيين وأفراحهم سوى تعبير حقيقي عن "سعادتهم وعن حبهم للحياة بعيداً من قذارة حياة المدن وصخبها"، فالحقيقة ان نظرته كانت "استشراقية". لنقل بالأحرى انه كان مخدوعاً. ولئن كان لسان حاله في واحد من أجمل لوحاته "الكرمس" التي تحدثنا عنها في زاوية الاثنين الفائت من هذه السلسلة في "الحياة" يشبه ما تقول كلمات اغنية محمد عبدالوهاب الشهيرة "محلاها عيشة الفلاح"، فإن بروغل كان ذا نظرة أكثر تعمقاً. هو رأى البؤس والموت والخوف ترتسم في ملامح الوجوه لتحيل أجمل اللحظات في حياة الفلاحين وأفراحهم وسمات لهوهم، الى لحظات رعب وقلق. تبدو الوجوه مرتعبة وكأنها تنتظر الكارثة، وكأن الموت يترصدها في كل لحظة. وهذه السمة تنطبق الى حد كبير على القسم الأكبر من اللوحات الجماعية التي رسمها بروغل لحياة الريفيين، كما تنطبق في شكل خاص، على تلك السلسلة من اللوحات التي تحمل، تقريباً، عنواناً لا يتبدل "رقصة الفلاحين" أو "الفلاحين يرقصون". ومن بين لوحات هذه السلسلة تلك التي تحمل تحديداً عنوان "رقصة الفلاحين" وتوجد الآن معلقة في قاعات "متحف تاريخ الفن" في فيينا. يرى كثيرون ان هذه اللوحة هي الأشهر، والأكثر دلالة بين لوحات بروغل كافة. وهي نفسها اللوحة التي توضع دائماً في التعارض مع لوحة روبنز المشار اليها. وهذه اللوحة تعبر، على أية حال، عن أروع ما في اسلوب بروغل، حيث يبدو العمل للوهلة الأولى منظوراً اليه في مجمله، مفعماً بالحيوية والسرور، ثم ما أن تقترب العين أكثر، وتبدأ بتفحص التفاصيل، بتلمس ما في الوجوه من تعابير، حتى تبدو الأمور مختلفة جذرياً. إن النظرات والملامح في شكل عام، تبدو متناقضة كلياً عن الحيوية التي يوحي بها المناخ العام للوحة. كل شيء هنا معلق في انتظار شيء ما. وحركة الرقص المندفعة على ايقاع حركة الفلاحين الى مركز اللوحة، تبدو وكأنها حركة هروب أكثر منها حركة اندماج. أما الموسيقيان اللذان يقوم دورهما على خلق ايقاع لحين يمكن لمشاهد اللوحة أن يستشعره على الفور، يبدوان - على رغم ادائهما المتواصل - وكأنهما ينتميان الى عالم مغاير كلياً. وكذلك حال الآخرين الجالسين الى المائدة يشربون. انهم في صخب غاضب، تنم نظراتهم على حال من العداء والعدوانية ويبدوان وكأنهما ليسا هنا إلا لإفساد الحفل. وهل الحفل في حاجة الى من تفسده أصلاً؟ ان الشخصيات تبدو في مجملها وكأنها لا تفعل سوى تكرار حركات روتينية عبثية، لا علاقة لها بالمرح أو بحب الحياة، بقدر ما هي متعلقة بحال طقوسية تكرارية لا غاية لها سوى تمضية وقت قاس ورتيب، في انتظار اطلالة يوم آخر. وما الغرابان الواقفان فوق سطح البيت الى يسار اللوحة قرب الشجرة التي علقت عليها صورة للسيد المسيح وأمه، سوى اشارة الى ذلك المجهول المتربص، الذي يحس به كل واحد من الحضور. ولكم تبدو ازاء هذا كله، بعيدة، تلك الأفكار الروسوية حول الريف وطعم الحياة فيه!؟ ان كثراً من المؤرخين يربطون عادة بين هذه اللوحة، ولوحة أخرى لبروغل هي لوحة "العرس". ففي تلك اللوحة أيضاً تتمة، من الخارج، فرحاً ومناسبة سعيدة، ولكن هنا أيضاً، يتعين على المشاهد أن يتمعن في اللوحة ليرى كيف ان بروغل، مرة أخرى وكما فعل مرات عدة، لم يكتف بتلك النظرة السطحية الى الأمور، بل غاص في المشهد، وعبر من خلال نظرات شخصيات عن مأساة يعيشها الفلاحون، ومن الواضح انهم لا يدركون كنهها. في هذه اللوحة يبدو واضحاً توجه بروغل الى دمج الفرد في الجماعة وفي المناخ الذي تعيشه هذه الجماعة من حوله. هنا يصبح الفرد، في آلامه ومشكلاته وبعض أفراحه، بحسب تعبير مؤرخ الفن ارنولد هاوزر، يصبح مرتبطاً بالمأساة العامة، أو بالأحرى ب"المأساة الهزلية التي يعيشها الوضع الانساني". وهكذا يصبح الفرد عنصراً لا معنى له، جزءاً من الديكور البائس في مجموع يحدد له مزاجه ومكانته. وفي هذا الاطار يرى هاوزر ان فن بروغل، في جزء منه على الأقل تنتمي اليه هذه اللوحة، انما كان يسهل من فلسفة كانت بدأت تسود في زمن بداية صعود الفردية، واحساس الفرد بالثقل الطاغي للمجتمع، فوق رأسه: فلسفة Docta Ignorantia، التي تقول: "اننا نجهل من نحن حقاً ولماذا وُجدنا؟ فإذا كنا نعيش ولا بد، إذاً فلنحلم، أو على الأقل فلنلعب الدور الذي عهد الينا ان نلعبه، حتى وإن لم يعطنا ذلك أي سرور خاص. ويرى هاوزر، وغيره من مؤرخي الفن، ان بروغل كان مطلعاً دون أدنى شك على تلك الفلسفة. من خلال قراءاته وثقافته العريضة. لذلك، إذ راح يعبر في لوحاته عن ذلك الوجود الميكانيكي اللاإرادي للأفراد في سياق المجموع - ولا سيما في الأرياف - فإنه انما عبر في الوقت نفسه، استخدم مشاهد الأعراس والرقص والحفلات التنكرية، بما فيها من جنون وعبثية، ليعبر عن كل ما هو ملتبس في الوجود البشري. وهكذا باتت الموضوعة الأساسية في معظم أعماله، هي تلك التي تعبر عن كشف الأشكال عن الحقيقة المضمّرة، وغوصها فيها في انتظار من يستخدم التفاصيل للتعبير عنها... لفضحها. وما لوحات بروغل الريفية، في شكل عام، سوى فعل فضح لتلك الحقائق، التي يبدو أنها غابت عن روبنز تماماً. رسم بروغل ويعرف ب"بروغل الكبير" تمييزاً له عن عدة رسامين آخرين يحملون الاسم عينه ومن بينهم يان بروغل ابنه، هذه اللوحة في العام 1568 ويقول البعض، بل قبل ذلك بسنوات، وكان حينها في قمة نشاطه وعطائه، هو المولود في بريدا - الهولندية اليوم - العام 1525. وهي واحدة من عدد قليل من لوحات بروغل بقي من بعده. أما تفاصيل حياته فغير معروفة تماماً. كل ما في الامر انه تدرب على الرسم في انتورب وبين 1551 و1552 قام برحلة الى ايطاليا، وربما ايضاً الى فرنسا. ثم عاد الى انتورب حيث حقق بعض افضل رسومه التي جعلته يعتبر أعظم فناني القرن السادس عشر، وربما أيضاً واحداً من أعظم عشرة رسامين في تاريخ الفن الغربي. في العام 1563، وكان بلغ من الشهرة مبلغاً كبيراً، انتقل الى بروكسل وتزوج، حيث عاش وحقق بقية أعماله، ومعظمها لوحات ريفية وذات مواضيع اجتماعية ودينية واسطورية، وهو ربّى رسامين عدة بينهم ابناء له. ومات في العام 1569 وهو في قمة مجده.