في "عود الريح"، أحد فيلمين عربيين عرضا في الدورة الثانية والخمسين لمهرجان برلين السينمائي الدولي، تلخيص لما يستطيع المخرجون العرب تحقيقه لكنهم لا يقدمون عليه. الفيلم المغربي عرض في نطاق قسم "الفورام" للأعمال الشابة، وهو من اخراج داود ولاد سيد. وهذا ثاني فيلم له بعد "وداعاً المهرّج". ومثل الفيلم الأول نرى "عود الريح" مبنياً على مشاهد مطوّلة منسجمة مع رغبة المخرج في إثارة حب التأمل في الصورة على أساس أنها الوسيلة الوحيدة لقراءة شخصياته والإلمام بها. هو ايضاً فيلم حزين مشبع بالبعد عن الإشتراك في اي وهم حوله. أبطاله يعيشون جميعاً على هامش الحياة، لكنه الهامش الوحيد الذي يعيشونه ما يعني أن الحياة الأخرى التي قد يسمعون بها هي الهامش بالنسبة اليهم. رتيب في التوليف، ليس هناك نقلات مفاجئة او ايقاع متسارع باستثناء نقلة واحدة لدراجة نارية تدور على جدار مستدير بسرعة كبيرة. قصة مشوار وإذ يتكوّن هذا الفيلم من رغبة المخرج في المتابعة والتأمل، يجد المشاهد نفسه مطالباً بأن يكون مستعداً لاستيعاب شامل قبل الحكم سريعاً على ما يراه. بداية، هناك طاهر محمد مجد الرجل المتقدم في السن الذي يعيش مع ابنه وزوجته في ريف بعيد ويشعر بأنهما لا يكترثان لبقائه معهما فيترك البيت ذات صباح ويتوجه الى مقبرة تقع قريباً من الدار البيضاء لزيارة قبر زوجته الأولى، الحبيبة التي لا يزال يذكرها بعشق وتيم. وفي الحافلة يلتقي الشاب ادريس فوزي بنسعيدي، وهذا ترك المستشفى قبل أن يتم علاجه بعدما استلم رسالة من مجهول تقول ان والدته تريد لقاء كل أبنائها قبل مفارقتها الحياة. حين تتعطل الحافلة بعد قليل من إقلاعها، يشترك الإثنان في الرحلة على الأقدام أولاً، ثم بواسطة دراجة نارية مجهزة بمكان خاص لراكب واحد. يتحوّل الفيلم سريعاً الى ما يعد به. انه فيلم طريق Road Movie. وعلى أفضل معايير هذا النوع من الأفلام يتم تقديم كل واحد من هذين الغريبين للآخر في الوقت الذي يكتشف فيه كل منهما نفسه وآفاقاً جديدة. العجوز يتمنى، نهاية المطاف، لو أن ادريس كان ابنه، والشاب يدرك أنه ربما فقد الأم يجدها بعد طول مشوار وقد فقدت ذاكرتها لكنه ربما وجد الأب الذي حرم منه. ليس أن النهاية سعيدة وتوافقية، بل ربما كانت تمهيداً لرحلة آلام أخرى. على رغم أن لقطتها الأخيرة لا تجسد ايجازاً او رمزاً لما سبق او لما سيلي، الا انها تتوافق مع ما سبق. فيلم ولاد سيد بحاجة الى ترميم هنا وهناك. انه من صنع مخيلة غنية لكن بأدوات بسيطة ومبسطة. اسلوبه مشبع وعينه واعية على تفاصيل المشهد المطلوب والغاية منه. أسلوبه يذكر بما يصنعه ثيو أنجيلوبولوس عادة، لكن مفرداته وادواته المحدودة، كما خلو السيناريو من مفارقات أكبر بعداً مما يرتسم على الشاشة، تعيق سلاسة هذا التشبيه. ما يرتسم على الشاشة تأكيد أن المخرج ماض في وسيلة عمل تكاد تخلو منها السينما العربية اليوم: تأليف جو آسر لحياة شخصياته الصغيرة. تلك التي لا يمكن ان تستوقفك حين مرورها بك، لكنها مشبعة بمشاغل البال والقلب بحيث اذا ما رضيت بأن تفتح صدرها وتتكلم وجدت نفسك متلقياً مصغياً. هناك شيء يجذب المخرج إليها كما للجدران من حولها. شيء لا يزال غير مفهوم بأبعاده على الشاشة: تصويره المطوّل لنوافذ صغيرة على جدران بيوت لن ندخلها. كتابات وصور لا تقفز الى الأمام بما تعنيه. ثم شخوص ثانوية وراء الشخصيات الأساسية الثانوية نراها تجلس الى الجدران في غروق شديد: هذا يقرأ على ما يبدو، القرآن الكريم، وذلك يضع على عينيه نظارة سوداء تخفيه، وثالثة تنوح بأغنية لا نفقه كلماتها. امنح هذا المخرج بعض الوقت والكثير من الثقة وشاهده يتآلف مع سينمائيين عالميين بارعين في تصوير هذا العالم والإستنتاج عميقاً منه. قسم "فورام"، حيث عرض هذا الفيلم، ثري بالتجارب الجديدة والمثيرة للإهتمام، لكنه بالطبع خارج المسابقة ما يكرّس حقيقة الإبتعاد المحزن للسينما العربية عن تحديات عصرها. في هذا الوقت العصيب الذي يمر به العالم العربي، تجد أن الساحة لا تزال حقل تجارب على العقل يمارسها كل من لديه أجندة سياسية يريد تقديمها. نتاج ذلك، ان اولئك الذين لا يزالون يتطرّقون الى موضوع الهولوكوست لديهم الساحة خالية من التحديات. اولاً خوف الغربيين من وصمة "معاداة السامية" وثانياً خوف العرب من اعتماد السينما شكلاً من أشكال التعبير الهادف وهروبهم غير المبرر عن المشاركة مع العالم بأسره في معارك أفكاره وفي عروضه الفنية ومسابقاته ونشاطاته. كوستا - غافراس أحد الذين لديهم مثل هذه الأجندة. المخرج الذي انتقل منتقداً اليسار ثم اليمين ثم متوسطاً الحالات ثم عاد لانتقاد اليمين قبل أن يستقر على أفلام لا لون لها، يقدم فيلماً عن الموضوع بعنوان "آمين". إحدى نقاط الجدل هنا هي حرية التعبير للمخرج. هذا اختياره فلم لا. وفي هذه النقطة لا يمكن الجدال اذ علينا أن نقبل قيام اي مخرج باختيار اي موضوع يريد. بكلمات أخرى: كيف تثق بكاتبين يهوديين يعيدان توزيع أحداث التاريخ على نسق واقعي؟ من الذي يقول أن ما كل ما يُعرض وقع فعلاً؟ ومن - الأهم - من الذي يقول أن كل ما يُعرض، بالطريقة التي يُعرض فيها، وقع بهذه الطريقة او الى هذا الحد او البعد المستنتج؟ "آمين" مستوحى من مسرحية وضعها رولف هوشهوف سنة 1963 بعنوان "الممثل" بمعنى "المندوب" وليس بمعنى المشخصاتي لكن كوستا - غافراس يعترف بأنه اقتبس ايضاً من كتب كثيرة قرأها عن موقف الكنيسة الكاثوليكية والبابا بويس الثاني عشر Puis XII تحديداً من قيام النازيين بحرق اليهود. الموقف السلبي تمثّل في محاولة الكنيسة الباباوية أولاً التهرّب من مسؤولياتها بحجة أنها لا تستطيع أن تتدخل في مثل هذا الشأن من دون أدلة، ثم بحجة أن المانيا تحارب الشيوعية الملحدة، وفي النهاية بحجة أن اي تدخل منها سيخصص اليهود من دون سواهم وسيعرقل الوصول الى نهاية حاسمة للحرب. ويمتد اتهام الفيلم الى كل الجهات الأخرى، بمن فيها الأميركية، اذ يعتبر الأميركيون أن السعي لحل المعضلة اليهودية بالوسائل السلمية او الضاغطة سيعطل مجرى الحرب التي هي وحدها التي ستضع حداً لمثل تلك المجازر. رداً على ذلك يقول الراهب الشاب ريكاردو ماثيو كازوفيتز أنه الى أن تضع الحرب اوزارها يكون قد تم قتل كل اليهود! ريكاردو هو أحد بطلي "آمين". الآخر هو طبيب ضابط في الجيش الألماني اسمه كيرت غيرشتين يؤديه الألماني اولريخ توكور الذي قد يكون موضع نتاج خيالي تام. نتعرف اليه متحمّساً في توفير نظافة المياه للجنود الألمان ثم مصعوقاً حين يرى من خرم أحد الأفران ما يصفه لاحقاً على هذا النحو: "رجال ونساء وأطفال عرايا يموتون بالغاز". بعد هذا الإكتشاف يحاول تأليب المندوب الكاثوليكي في برلين الذي يرفض التدخل، لكن ريكاردو يشعر بأن على الكنيسة أن تفعل شيئاً ويأخذ على عاتقه مساعدة كيرت. هذان المسيحيان ينطلقان منفصلين، معظم الأحيان، لتشييد موقف ينقذان به اليهود مما يحدث لهم، وكيرت نفسه يحاول بعثرة الجهود بالتشكيك في فاعلية الغاز المستخدم حيناً وبمحاولة مقابلة البابا حيناً آخر. وفي النهاية يكتشف أمره وأمر ريكاردو. مثل فيلم ستيفن سبيلبرغ "لائحة شيندلر" هناك ذلك الموقف المسيحي اللامع تجاه مأساة اليهود. لكن في حين أن فيلم سبيلبرغ يستند الى أرضية مستلهمة، اعترافاً، من مزيج من الواقع والخيال، يوحي "آمين" بأنه تسجيل للواقع وحده، لكنك تدرك أن هناك تدخلات كثيرة لأسباب درامية او سياسية. سبيلبرغ فتح المجال لتيار من الأفلام التي تتحدث عن كيف ساعد المسيحيون اليهود في محنتهم، لكن أفضل أفلام هذا التيار كان "اسبوع مقدس" لأندريه فايدا 1995 اذ لم يكترث لتلوين الشخصيات بحسب مواقفها من الهولوكوست، بل منحها أبعاداً أكثر تشابكاً وتعقيداً من تلك التي لدى "لائحة شيندلر" العاطفي و"آمين" المحتد. سجل طويل بعد فترة هدوء نسبي طويلة، يخوض كوستا - غافراس معركة جديدة هذه المرة ضد الكنيسة الكاثوليكية. وفي السينما هناك ثوابت يهودية في هذا المجال، تجد مثلاً أن الكنيسة الكاثوليكية، وليس البروتستانتية، هي التي تواجه انتقادات الأفلام التي يكتبها ويخرجها يهود. تجد أنها متهمة، بالسلطوية ومنظور اليها كما لو كانت خروجاً عن الدين وليس من صلبه. هذا ما يجعل "آمين" سطراً في سجل طويل. يحضرني كمثال عابر آخرُ فيلم شوهد مهاجماً الكنيسة قبل "آمين" وهو "الجسد" 2001: فيلم اميركي / اسرائيلي عن راهب كاثوليكي يصل الى القدس ليحقق في ادعاء اسرائيلي بأن رفاتاً اكتشفت قد تكون رفات المسيح. اذ يعود مقتنعاً في نهاية الفيلم الذي لا ينسى أن يكيل للفلسطينيين ايضاً بمواجهه موقف الكنيسة الكاثوليكية المتعصب التي، بحسب الفيلم، ليس لديها ما تدافع به عن نفسها سوى القول أن مجرد الإيمان بوجود رفات للمسيح يلغي موضعه وقدره. ربما هذا صحيح، لكن انظر الى ما وراء الموقف تجد الغاية. لكن الى ذلك كله، كيف يمكن لرجل ما، لا فرق اذا كان مسيحياً او يهودياً، وفي مثل هذه الظروف التي يتحول فيها اليهود الى جلادين في فلسطين، تناسي هذا كله والغوص في ما ارتكب ضد اليهود من أذى بصرف النظر عن الأذى الذي لحق بالعالم بأسره في ذلك الحين؟ لا بد أن السينمائي الذي يندفع لمثل هذا الموقف على درجة مؤسفة من التعنت او مدرك أنه بعمله ذلك انما يرضى بالتغاضي عن الواقع الحالي دفاعاً عنه او محاولة لتذويبه. انه، على نحو عملي، مشارك في تبعية الحديث عن مأساة مضت وشبعت تعرّضاً وبحثاً ومعايشة والتغاضي عن مأساة واقعة يعيشها العالم اليوم مرهقاً بجرائمها. في هذا الموقف اسفاف كبير. ولا يكفي اعتبار أن كونستانتين كوستا - غافراس قدم موقفاً ناصعاً في "هانا ك." كاد أن يدمّره في الغرب لكونه دافع عن حق الفلسطيني في العودة الى داره كان ذلك شجاعة نادرة من المخرج سنة 1984، اذ أن كوستا - غافراس بعد ذلك أنجز ثلاثة أفلام عن اليهود وجمالهم ومعاناتهم. كذلك فإن الاختيار الحالي هو ما يواجه به المخرج وليس الاختيار السابق.