ضربة قوية واحدة على البيانو ثم يتبعها ضوء كثيف ينير خشبة "مسرح الدراما الملكي"... هكذا تُفتتح مسرحية "أشباح" وهي اول نص مسرحي من نوع الدراما العائلية للكاتب النروجي هنريك ايبسن يترجمه ويخرجه انغمار برغمن الذي تجاوز الثالثة والثمانين. تجلس الأرملة الفينغ في زاوية بيتها في احدى قرى النروج منكبة على القراءة وقربها خادمة الدار الجميلة رجيني التي ترعرعت عند سيدتها، تمسح ادوات المائدة بعناية. أما ابن السيدة الفينغ، الشاب الفنان اوسفالد العائد حديثاً من فرنسا فهو غارق في النوم على كنبة مخملية خضراء محاطة بستائر عالية ونافذة كبيرة تطل على حديقة الدار المسوّرة بأشجار عالية. يصعد النجار انغستراند ببطء درج المنزل قائلاً لابنته رجيني انه وضع اللمسات الأخيرة على ملجأ الأطفال الذي بنته السيدة الفينغ تكريماً لذكرى زوجها الذي توفى. لكنهم جميعاً بانتظار الكاهن ماندر القادم من اوسلو ليلقي خطبة الافتتاح نهار غد والتي من المفترض ان تبارك ملجأ الأطفال المنتظر. جميعهم يقومون بالأعمال اليومية التي من المفترض ان يقوموا بها فيما يحمل كل واحد منهم في داخله سر كذبة العمر التي يخفيها عن الآخر وراء قناع يرتديه الجميع اينما ذهبوا. يقرر المخرج العالمي انغمار برغمان ان يعريهم من اقنعتهم ليظهر للجمهور ان كل انسان منا يحمل كذبة عمر في داخله يدافع عنها بكل قدرته لئلا تكشف مساوئه. الخادمة رجيني واقعة في حب ابن سيدتها الثرية، اوسفالد الذي وعدها بالزواج وباصطحابها الى باريس ليزورا عاصمة الفن والحلم ما دفعها الى الانكباب على تعلم اللغة الفرنسية سراً على امرأة فرنسية تنظف منزلها في ايام العطلة. اما النجار انغستراد الذي من المفترض ان يكون والد الخادمة رجيني فيصارح ابنته انه سيترك المهنة لأنه قرر ان يبني نزلاً بالقرب من الميناء يستضيف فيه البحارة القادمين من انكلترا وأميركا. ويطلب منها ان تنتقل معه لتساعده في ادارة النزل "على امل ان يحبك قبطان مشهور ويتزوجك". المال هو الشيء الوحيد الذي يهم النجار المدمن الذي يردد كل ما ورد في الكتاب المقدس. ولكن حلم ابنته رجيني اكبر من ذلك فهي تهيئ نفسها للسفر الى باريس وتتشبث بموقفها فهي لن تترك منزل سيدتها إلا الى باريس. احلامها اكبر من واقعها ليس بسبب موقعها الاجتماعي بل بسبب كذبة العمر التي يعرفها الجميع باستثنائها وحبيبها اوسفالد الذي يبني عليها آمالاً يعتقد أنها "المنقذة الوحيدة" لإخراجه من الأزمة الصحية التي يعيشها فهو يعاني مرضاً وراثياً في رأسه ولكن لا يحكي عنه لأحد. يدخل الكاهن ماندرش الذي تأخر في سفره بسبب المطر الغزير وتستقبله السيدة الفينغ بمودة. وبعد ساعات من الكلام "النوستالجي" عن ايام جميلة مضت وعن ذكريات يقول الكاهن كلمة مؤثرة "كلنا كنا نحبك... انا ايضاً هل تتذكرين؟ فترتمي السيدة الفينغ في احضان الكاهن الذي لا يتمكن من ردع عواطفه ويمنحها قبلات العشق التي اشتاقت إليها. ينتفضان بعضهما عن بعض فور سماعهما صوت ابنها اوسفالد يداعب الخادمة في المطبخ فتقول السيدة الفينغ "إنها اشباح". اشباح تدخل روح ابنها الحالمة في الحب وتدغدغها، وأشباح ترحب بها الخادمة الحالمة بربيع مقبل، وأشباح تتسلل الى روح الكاهن الذي من المفترض ان يتجنب "المعاصي" وأشباح تقتحم روح السيدة الفينغ وتخرجها عن وعيها الطبقي وتنزلها الى مرتبة البشر في ارتكاب ما يسمى بالخطيئة. اشباح لا تترك احداً فهي تلعب بأرواح الجميع وتوقعهم في شيء مشترك وهو الانجراف الجنسي. يعرف الكاهن ماندرش حقيقة الخادمة رجيني فيطلب من السيدة الفينغ ان تصارح الجميع بها لتجنب خطيئة العمر التي ستهدم مستقبل الجميع. فالخادمة رجيني هي اخت ابنها اوسفالد. ولكنه مطلب صعب بالنسبة الى السيدة الفينغ، فزوجها الميت كان اختلى بوالدة رجيني التي كانت تخدم في بيتهم وأنجب منها رجيني. انها خطيئة دينية لمجتمع تسيطر عليه الكنيسة وعادات اجتماعية محافظة للغاية وليس من السهل على السيدة الفينغ ان تعترف ان زوجها جرحها في كرامتها وكان يعتقد الجميع انه رجل طيب ويحب الخير. تصارح السيدة الفينغ الكاهن بأشياء لم تقلها قبلاً، وتشرح له ان زوجها كان انساناً سيئاً للغاية في حياته العائلية وأنه كان يعذبها ولا يؤدي دوره الأبوي الكامل وأنه لم يكن ملتزماً دينياً وكان يضربها. يظهر الكاهن ماندرش اندهاشاً كبيراً وخصوصاً انه انتهى من كتابة خطبة افتتاح ملجأ الأطفال التي سيلقيها غداً، وتضم كلمات تشيد بحياة رب البيت الذي يعتقد الجميع انه انسان مؤمن وخيّر. ولكن هذا لم يغير من خطة الافتتاح المقررة فيتفق مع السيدة الفينغ على ألا يذكر كلمة سوء عن زوجها وعلى ان يدفنا الكذبة في بئر عميقة. ويدخل ابن السيدة الفينغ ويقول لها ان عنده سراً يريد البوح به، إنه مريض في رأسه ودماغه "في حال انهيار" وقد لا يشفى من ذلك المرض الذي اكده الأطباء في فرنسا. تجد السيدة الفينغ جلستها مع ابنها الحزين مناسبة جيدة للمصارحة فتسأله إن كان يحب الخادمة رجيني، ويقول لها انه يرتاح في حضورها ولكن بعد قليل يصارحها انه يرى فيها الأمل الذي سيخرجه من مرضه. ولكن امله لا يمكن ان يتحقق لأنه يتعارض مع القيم والأخلاق الاجتماعية والدينية فتصارحه بالحقيقة القاسية ان رجيني هي اخته من والده ولا يمكنه ان يتزوجها، فينهار على الفور. يعود اوسفالد في الصباح الباكر زاحفاً والدخان يتصاعد من ملابسه ويصرخ على درج البيت طالباً المساعدة لأن النار تلتهم ملجأ الأطفال الذي سيفتتح بعد ساعات. يقف الجميع برعب امام النار وصوتها المخيف ويأتي النجار من خلف الكاهن هامساً له "الحريق التهم كل الملجأ، حتى المعبد الصغير الذي اقمنا فيه قداساً ليل امس، فالحريق اندلع في داخله اولاً". لم يطفئ الخوري ليل امس الشموع التي سببت الحريق لأنه كان يمارس الجنس مع السيدة الفينغ في المعبد فيركع في مقدم المسرح طالباً الرحمة ووهج النار يرتفع ليضيء كل خشبة المسرح ويغمر كل جسد الكاهن الباكي خوفاً من العقاب الإلهي. تعترف السيدة الفينغ للخادمة رجيني انها ابنة زوجها وأنها لا يمكنها ان تتزوج من ابنها فتترك رجيني المنزل غاضبة الى اوسلو لتساعد النجار في ادارة النزل. اما ابن السيدة الفينغ، اوسفالد فينهار بسبب الحقيقة المرة ويطلب من والدته ان تعطيه دواء كان في حوزته فيقع ميتاً وتبقى السيدة الفينغ واقفة امام جثمان ابنها مصابة بالجنون الذي يقتل روحها فتبقى مجرد جسد خال من الحياة. عندما كتب ايبسن رواية "اشباح" سنة 1881 لم يكن احد يجرؤ حينذاك على تناول مسائل مثل التحرر الجنسي او الانقلاب على المجتمع الذكوري او حتى مناقشة انتشار مرض السفلس خوفاً من اكتشاف حقيقة ان الجزء الأكبر من المجتمع يمارس الجنس سراً. منعت السلطات الملكية آنذاك كل المسارح النروجية من تقديم نص المسرحية لأنها وجدت فيها تحدياً للعرف الاجتماعي خصوصاً انها تتضمن مقاطع غزلية وجنسية كما انها مفعمة بالسياسة التحررية لمصلحة المرأة، والصراع الطبقي واضح كذلك في نص المسرحية. انتقل ايبسن مع نص المسرحية الى شيكاغو في الولاياتالمتحدة الأميركية وعرضها هناك امام جمهور من المهاجرين النروجيين فرحبوا بعمل مسرحي ممتاز. وشاع صيت المسرحية في الدول الإسكندينافية فغامر قسم من المسارح وتبناها وعادت لتعرض سنة 1883 في السويد ثم النروج والدنمارك. اما المخرج انغمار برغمان فأعرب عن اعجابه الكبير بأعمال ايبسن ولكنه تجنب فترة طويلة الخوض في ترجمتها خصوصاً أنها من النصوص الأدبية الصعبة والمحظورة. لم يخرج برغمان اي نص مسرحي لإيبسن قبلاً ولكنه انكب من الصيف الماضي على ترجمة مسرحية "اشباح" التي وجد فيها مميزات تتناسب مع اي وقت او مكان، وتكللت الترجمة بإخراجه احد اهم اعمال الأديب النروجي ايبسن. لم يبدّل برغمان في الطريقة التي يتبعها عادة في اخراج المسرحيات على الخشبة، فهو يستخدم قواعده الأساس في التمثيل وتوزيع المشاهد انطلاقاً من مبدأ نقاط الاحتراق. ويقسم المسرح الى قسمين لا يوجد بينهما حدود فاصلة مرئية ولكنهما نقطتان يكتشفهما الجمهور بعد انتهاء العرض. نقطتا الاحتراق تتمثلان في دائرتين تقعان في مقدمة المسرح. في جهة المنتصف تجري كل الأحداث التي لها علاقة بالمشاعر مثل الفراق، الحب والجنس والضحك والبكاء... اما دائرة الحوارات الرسمية التي يقرر فيها الأشخاص ادارة يومياتهم فتقع الى يسار المسرح. ويستخدم درغمان اسلوب نقاط الاحتراق من اجل ان يحبس المشاهد في تسلسل احداث المسرحية ويفصل المشاعر التي من الصعب مشاهدتها عن المناقشات الرسمية والجدية. هذا الأسلوب يسهل على المشاهد فهم مضمون النص المسرحي. ويعتمد اسلوب الحوار بين الممثلين واضعاً الممثل في قلب الضوء. لا يستخدم برغمان الكثير من أدوات الديكور المسرحية فهو يختصر الأدوات الكبيرة مثل النوافذ والأبواب والأشجار بصور ضوئية تعطي المشاهد شكلها المطلوب. ويستخدم الموسيقى بطريقة فنية راقية تتناسب مع الأحداث ويعطي خلفية صوتية واضحة للأحداث مثل حريق الملجأ اذ يسمع سعير النيران في طريقة واقعية. وصرح برغمان انه وجد صعوبة في ترجمة نص ايبسن لأنه اعتمد النص الأساس المكتوب باللغة النروجية. ومن شاهد اعمال برغمان السابقة مثل "سوناتا الأشباح" للكاتب السويدي اوغست ستريندبرغ يرى ان هناك اختلافاً واضحاً بين تنفيذ العملين. فبرغمان لا يضع كل خبرته في "أشباح" وقد يكون ذلك بسبب ضيق الوقت وبسبب العمر المتقدم لبرغمان. فهو نفذ العمل خلال اشهر كما انه اعلن اخيراً ان "للعمر حقاً علينا" فهو اقترب من الرابعة والثمانين، وكان منشغلاً في العمل التلفزيوني المقبل الذي يحمل اسم فتاة سويدية "آنا". لا ينقص المسرحية اي عمل تقني او فني او حتى إخراجي. فبرغمان ينفذها بطريقة فنية ممتازة تكتمل فيها شروط المسرح. ولكن روح برغمان التراجيدية شبه ناقصة لو قارناها مع مسرحياته السابقة. يحاول برغمان ان ينتج اكبر عدد من الأعمال السينمائية والمسرحية قبل ان ينتهي العمر. فهو انكب في السنتين الأخيرتين على الإنتاج المكثف، وقدم نصاً سينمائياً الى زوجته السابقة ليف اولمان وفشلت في اخراجه، وكتب وأخرج فيلماً تلفزيونياً سيعرض قريباً كما انه خرج عن عزلته الصحافية وتكرّم على عدد من الصحافيين المشهورين بحوارات حول مسائل وجودية.