تُسمع حركة الساعة تدق عن بعد على مسرح الدراما الملكي حيث تعرض مسرحية "سوناتا الاشباح" للكاتب اوغست ستريندبرغ في اخراج انغمار برغمان. الوقت يتكلم، لا يتوقف وطالب شاب يدخل خشبة المسرح زاحفا الى البئر طالباً من بائعة الحليب اعطاءه كوباً ليروي عطشه. المدير المقعد هومل الذي يعرف اسرار اهل المدينة كلها، يجلس مراقباً بحسد غزل الشباب على سطح البئر وفي الوقت نفسه متمنياً ان يعمل خيراً في ايامه الاخيرة للتكفير عن ذنوبه الكثيرة، فهو كان دائماً يسرق السنين من عمر الشباب كالوطواط يسرق الدم من عرق الانسان. كان يسرق ايام البشر عبر اكتشاف عيب بهم يهددهم من خلاله وبهذا يطاع خوفاً من الفضيحة. وجوه لها لون الموت تخرج من الحيطان، كل وجه له جرح مختلف ينزف منه الدم ببطء وثقل، واجسام تشبه الاشباح تشكو من كل شيء في حياتها اليومية، الا الشاب الطالب الذي يريد ان يدخل الحياة وهي لها صورة ملائكية في روحه. يقف موجها نظراته الجائعة الى القصر البعيد العالي متمنيا دخوله واكتشاف جماليته من الداخل وحياة سكانه. لوحة واقعية تنقلنا الى الحياة في اوائل 1900 حين كان الفقر طاغياً في بيوت عامة الشعب والامراض الجلدية المعدية منتشرة بين الناس، وأصحاب الاموال خائفون أن يثور خدمهم عليهم ويستولوا على المال. لوحة تصف صراعاً طبقياً اجتماعياً وشكوى انسانية لله في وقت فقد الانسان ثقته بأخيه الانسان. هذه اللوحة الدرامية الجشعة يعيد المخرج الكبير انغمار برغمان احياءها بامتياز لدرجة يعتقد المشاهد ان مجريات الاحداث على خشبة المسرح تحصل الآن، ووجه الكاتب ستريندبرغ طاغ كضبابة شتاء مرعب تنذر بعواقب وخيمة. مسرحية "سوناتا الاشباح" التي قام برغمان باخراجها للمرة الاولى سنة 1941، تتجدد تفاصيلها من دون ان تؤثر على مضمونها. فبرغمان معروف في قدرته الابداعية على ايجاد طرق جديدة لوصف احداث رواية اخرجها من قبل. ومرور نحو ستين عاماً على الاخراج الاول انضج برغمان ورسّخ رؤيته وقد تجددتعبر هذا الزمن النظرة في احداث رواية الكاتب ستريندبرغ. ومن الملاحظ ان برغمان، 81 سنة، يكره الشيخوخة لدرجة انه يعطيها وجهاً بشعاً في المسرحية. فجميع الشخصيات مهترئة تنزف ما عدا شخصية الطالب الشاب الذي يتمتع بحيوية الشباب وحبه الحياة. ولكن حتى هذا الاخير تصدمه واقعية عالم ستريندبرغ. فهو يقع في حب ابنة الجنرال الجميلة الوجه والانيقة الملبس ورالائعة الصوت. ولكنها حتى هي بجمالها الساحر تحمل تحت ملابسها اثار جروح واضحة على جسدها وتتعطر باستمرار خوفاً من ان تخرج رائحة الجروح العفنة الى العلن. وهنا نجد نقطة تلاقٍ في نظرية ستريندبرغ بين الزمن وجروحه. فعالم الوقت الذي يصفه برغمان في دقات عقرب الساعة يظهر بشكل جروح على جسد الانسان. وفي حالة ابنة الجنرال الشابة، فلا تزال الجروح متخفية تحت الملابس على عكس الجنرال وزوجته وبقية الاجساد البشعة النازفة من جراء مرور السنين. خيال الكاتب ستريندبرغ الواسع والمرعب يُخرج جروح السنين الداخلية المعششة في الروح ويضعها على الجسد. وبراعة برغمان تعري الجسد على المسرح وتظهر تلك الجروح في كل صراحة. جميع شخصيات المسرحية يشبه بعضها بعضاً شكلاً ومضموناً، فهي شخصيات لا تحب الصراحة تعيش على الكذب ويخاف بعضها من بعض، تفضل الكماليات والمال وتبني جسراً لتقرب بين الحالة الانسانية والحيوانية. فإنسان ستريندبرغ هو صورة طبق الاصل عن انسان عالمنا منذ التكوين، ولكن الفرق ان ستريندبرغ يعري الانسان من وجهه المزيف. اما معظم بقية البشر فيتمسكون بقناع الزيف. لكن ستريندبرغ الذي كان دائماً يردد جملة "يا اسفي على الانسان" يعود ويكرر مضمون الجملة في هذه المسرحية عندما يقول الشاب كلمات ستريندبرغ ان "الجميع يتعذب" ولكن يزيد برغمان الى هذه الجملة مقطعاً من عنده ويقول "والنساء اكثر من غيرهن". وعذاب الطالب الشاب في المسرحية يكون في بادئ الامر مختصراً على امنية دخول القصر البعيد والجميل. وعندما تتحقق رغبته يجد انه وقع في عالم اسود مهترئ مريض، له رائحة موت قاسٍ، رائحة تنتقل من فم الى فم ومن جرح الى جرح من دون توقف. فالطالب يكتشف داخل جدران القصر كرهاً عميقاً بين الخدم ونبلاء القصر. كره يضمره الاولون وخوف يتوجس به الآخرون. وعندما يجد الشاب فسحة امل في وجه ابنة الجنرال الجميلة يخيب ظنه عندما يكشف عن روحها الداخلية ويجدها هي الاخرى مهمشة بجروح السنين من جراء ترك والدها الاصلي لها وتقوقعها في البيئة البرجوازية خائفة حتى من طعام الخدم. وبعد ان يكتشف الشاب "دواخل" سكان القصر لا يتوانى لحظة عن اعلان كفره بالانسان واللجوء الى الله. ويشكو الانسان للبارئ وتكبر شكواه عندما يكتشف انه لا يمكنه ان يتزوج من الجميلة ابنة الجنرال لانها ايضا هي تحمل اثار الاشباح في جسدها وروحها. وعندما يعريها من ثيابها تظهر اثار الجروح على جلدها الناعم حينذاك تقول له انها ذاهبة لتقابل الموت. نص درامي رائع للمبدع الكبير اوغست ستريندبرغ ازداد ابداعا بعدما قام الفنان برغمان باخراجه. وعلى الرغم من سوداوية الصورة الدنيوية الوجودية التي يصفها ستريندبرغ ويعطيها برغمان صوراً حيّة على خشبة المسرح فالمسرحية من اروع ما قدم في الفترة الاخيرة على مسرح الدراما الملكي في ستوكهولم. للموت رائحة في هذا العمل وللسخرية مكان يختلقه المبدعون. ساعة ونصف من الوقت يرفض المشاهد الاستراحة راغباً في معرفة ما الذي سيحدث، او ليرى ما اذا كان يوجد جزء من وجهه او روحه الداخلية على تلك الخشبة. والمرأة التي تعطينا الصورة الصحيحة عن عالم ينقصه عدل ويزداد سوداوية تطغى على كل شيء. ومثل كل مرة يظهر برغمان براعته الاخراجية عبر اعتماده على اداء الممثلين مستغنياً عن ادوات مسرحية معقدة. فهو يستخدم اسلوب الصور الضوئية التي تملأ المسرح اشكالاً تغني عن الديكور الخشبي لهياكل يحتاجها المسرح عادة. وهنا ينفذ برغمان الصور الضوئية بامتياز. فبرغمان يغطي كل المسرح، الخشبة والحيطان بقماش له لون واحد. وعند بث الصور الضوئية على القماش تظهر الاشياء كأنها ديكور حقيقي. وبهذا يخلق برغمان دائرة اوسع لادخال اشكال كبيرة مثل القصر والمقبرة وغير ذلك من ابنية لا تتسع لها خشبة المسرح. ويعتمد كذلك اسلوبه المميز في استخدام النقطة الساخنة على خشبة المسرح، أي المكان الذي يقع اكثر من غيره في دائرة نظر الجمهور، وفي تلك النقطة بالذات تجري اهم احداث المسرحية، مثل موت ابنة الجنرال، البئر الذي يشرب منه الشاب ومناجاة الشاب لله. ومن اجل اكمال الدائرة الدرامية المخيفة لخيال ستريندبرغ يختار برغمان اجزاء من سمفونيات "بلا بارتوكس" مشحونة بالحان موت مخيفة ولكن لا تخلو من جمالية سوداء تجذب السمع من دون مقاومة تذكر. وبهذه الموسيقى التي تبدأ المسرحية على انغامها تقفل الستارة ايضاً على ألحانها.