عندما نقرأ الديوان الشعريّ الثالث لأمل جمال "حدث في مثل هذا البيت" الصادر في طبعة خاصة نجد أن صوتها الشعري قد تغير - قليلاً - عن ديوانيها السابقين: "لا أسميك" 1995 - هيئة الكتاب، و"من أجل سحابة" 1998 - هيئة قصور الثقافة، ليصبح صوتاً شعرياً يقدم إسهاماً رائقاً في حركة الشعر الجديد. يحمل العنوان "حدث في مثل هذا البيت" دلالة شرطية مضمرة، فبتجدد الظروف والدوافع المحيطة تتكرر التجربة الإنسانية التي يرصدها الديوان، وحمل العنوان دلالته المضمرة - هذه - من التناص مع العبارة الشهيرة: حدث في مثل هذا اليوم، وهي الإشارة التي تحسب للديوان وحركة الشعرية التي يمثلها، فعلى رغم الذاتية الشديدة والخاصة - في تجربة الديوان الإنسانية - إلا أن هذا لا يمنع أبداً أن نتلمس أصداء المماثلة في تجارب آخرين، أو على وجه الدقة: تجارب أخريات مررن بالظرف الحياتي الذي فرض الشرط المضمر في العنوان، وذلك كما في: سيدة في مقتبل العمر/ تثبت عينيها على الحذاء/ وتحرك خاتم الزواج بإصبعها/ شاردةً/ رغم زحام الباص/ شاردةً/ رغم هروب الشارع/ شاردةً/ رغم انزلاق الحقيبة عن ركبتيها/ تنهدت/ فابتسمنا/ نزلنا المحطة نفسها... مدخل الديوان يقدم جواً مشتقاً من الدلالة الايروتيكية الشائعة للون الأحمر. فعبارة "ضوء أحمر" ترشح حقلاً دلالياً من اثنين: إشارة المرور الضوئية التي تعني التوقف، أو الدلالة الإيروتيكية، لكن قميص النوم الأحمر، كذلك، لا تشي إلا بحمل هذا اللون لدلالة ايروتيكية خالصة، والتي تعني نفي العالم لدى الطرفين المؤديان للفعل، وهو ما أبقاه لنا التساؤل الأخير: ماذا يعني العالم، حيّاً ونابضاً بعزلتهما عن هذا العالم. وهذه العلاقة الحميمة هي أول ما نكتشفه في ما يحدث - في مثل هذا البيت - بما تشتمله هذه العلاقة بتفاصيلها على سكينة لكليهما: ساكنين/ صامتين/ قمر يطل من النافذة/ ملاءة خفيفة .../ رأسك ليس ثقيلاً .../ بدليل أنني أتنفس بانتظام/ نم/ هادئاً/ يا حبيبي. أو حالات الفقد الإنساني التي تنتاب أحد الطرفين - في غياب الآخر - وهي التيمة الإنسانية المتكررة نظراً لغربة زوج عن عروسه الشابة. وترسم القصائد بعضاً من ملامح محنة الأنثى في مواجهة الخطاب الذكوري الغالب في المجتمع، وهو نمط الخطاب النسوي - لا الأنثوي - فنجد من هذه القصائد تعبيراً حيّاً عن لحظة الخيانة: الخيانة النفسية التي يمارسها طرف ضد الآخر الذي يظل حريصاً - الحرص كله - على نقاء الرابطة. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن جدوى الاعتماد - غير المبرر - على جمل إنكليزية، كالسابقة، أو أغنية الخاتمة التي تنهي بها ديوانها، وينجو من هذا اللصق غير المبرر كلمة Stop في إشارة الحسم الشديد التي استخدمتها بتوفيق في قصيدة: شيزوفرينيا: عندما يحتد زوجي على صديقته/ تقول له: Stop/ أنا لست زوجتك!/ عندما يحتد زوجي على أخته/ تقول له: Stop/ أنا لست زوجتك. وهو المشهد الذي يطرح ظلالاً أخرى لانقسام حياة الزوج إلى كئيب عابس في البيت، ومنطلق مبتهج مع صديقته: يحتفظ بابتسامته لصديقته/ بأسراره لصديقته/ بصيحات لعب الورق/ لصديقته/ يحتفظ لزوجته دائماً/ بالسباب والغباء... وهي العاملة التي تشي - في مجملها - بانفصام في نفس هذا الرجل بما ترسمه له من صورة تقليدية للشرقي الذي لمّا تمس الحضارة إلا قشرته الخارجية لتترك شروخاً داخلية كثيرة: علمته الحضارة أن يطبخ/ يكنس البيت/ يعرف الكومبيوتر/ ويضرب زوجته لأنها/ لا تقول له: "نعم - حاضر"/ أربع وعشرون ساعة في اليوم. ربما صبغ هذا الخطاب النسوي قصائد الديوان بأشياء تبدو مقحمة على الموقف الشعري كالحديث عن الموقف القانوني أو قانون الأحوال الشخصية. ولا يمكن أن ننفي دور المجاز - بمفهومه العربي القديم - وأنواعه المختلفة في تشكيل الصورة الشعرية في المشهد الشعري الجديد، الأمر الذي يجعلنا نتوقف توقف نظر ومراجعة في ما ساد الساحة النقدية من جعل نفي قيمة المجاز الجمالية في تشكيل الخطاب الشعريّ الجديد، مرجعاً ومقولة ثابتة توصم بها كتابات جيل، الأمر الذي لفت نظر - حلمي سالم - أكثر من مرة في قراءاته لنماذج جديدة من حركة الشعر الجديد. وانطلاقاً من هذه الوجهة سنجد للمجاز دوراً واضحاً في تشكيل الصورة الشعرية في هذا الديوان، ونجد له أشكالاً متنوعة من الاستعارة: كم قبلة تركتها تنمو في قدمي/ مفاتيح تغلق كل الأبواب ولا تفتح غير الحزن/ تفر التواريخ في مراياك، أو الكناية: رجل ينفخ في الجمرات وسيدة تشعلها/ لماذا تركنا الربيع القصير دون زهرة على العتبة؟. لكن الملاحظ حقاً هو أن هذه الصور جزئية لم يتعد إطار تشكيلها حدود الصورة البيانية الجزئية الى تشكيل فضاء صوري يشمل النص، ربما يكون هذا الاستخدام الجزئي لدور المجاز استناداً إلى تضافره مع عناصر أخرى، في تشكيل الصورة أحد أهم خصائص هذه الكتابة الجديدة وأحد أهم سماتها التي تميزها عن طرح الحركات الشعرية السابقة للصورة الممتدة والمركبة.