الذين زاروا تونس يعرفون تلك العمارة الكولونياليّة الجميلة التي كانت ذات يوم قاعة سينما "قرطاج"، واحتضنت بين جدرانها ذكريات وانفعالات أجيال متلاحقة. والآخرون سمعوا بلا شكّ ب"مسرح مدار" في قرطاج، الضاحية العريقة للعاصمة التونسيّة المعروفة بمسرحها التاريخي ومهرجانها وآثارها الرومانيّة. ذلك أن المكان الذي يديره "مسرح فو" الشهير، استضاف عدداً من أبرز الأحداث الابداعيّة والفنيّة خلال العقد الأخير، وصار محطّة أساسيّة في الحياة الثقافيّة التونسيّة. لكنّ ستارة سوداء هائلة تلفّ "مسرح مدار" منذ مطلع الأسبوع، بعد أن قرّرت بلديّة قرطاج طرد الفنّانة البارزة رجاء بن عمّار، ورفيق دربها المسرحي المنصف الصايم، مع العلم بأن عقد ايجارهما تجدد اوتوماتيكيّاً أواخر العام الماضي، لتسع سنوات جديدة. أما الدافع إلى قرار اخلاء المسرح، فتبرّره البلديّة بال"خطر الذي يتهدد المواطنين" بسبب الوضع المتردّي للمبنى. وترفض ادارة "مدار" هذه الذريعة، مستندة إلى تقرير خبراء مستقلين درسوا الجوانب الهندسيّة والصحيّة للمكان. وتعتبر قرار الأخلاء الذي طلبت المحكمة "تنفيذه الفوري مع تدخّل قوى الأمن"، "طرداً تعسفياً"، وقررت إستئناف الحكم. ولفت المنصف الصايم، في حديث هاتفي مع "الحياة" إلى أن البلديّة رفضت القبول بالخبير القانوني الذي اختارته المحكمة، مكتفية بتقارير الجهة المكلّفة من طرفها بتفقّد المبنى. والتفّ أهل الفنّ والمسرح والأدب في تونس حول رجاء بن عمّار وفرقة "فو"، فأقاموا اعتصاماً في المسرح، وقدّموا العروض وألقوا كلمات التضامن. بين هؤلاء الممثّلة البارزة جليلة بكّار، والمسرحي توفيق الجبالي، والمسرحي الفاضل الجعايبي الذي قال: "في وقت يحتفل "مسرح لديّة تونس" بمئويّته الأولى، قررت بلديّة قرطاج اغلاق فضاء "مدار"، مختبئة خلف ذرائع قانونيّة وزمنيّة. وهذا الطرد التعسّفي الذي لم يسبق له نظير في تاريخ الفنّ التونسي منذ الاستقلال، يعرّض لخطر التهميش والاضمحلال فرقة مميّزة تساهم في صنع النهضة المسرحيّة التونسيّة، وتشعّ من "مدار" داخل تونس وخارجها. وهذا الطرد التعسّفي، سيعرّض الفرقة حتماً للبطالة والتشرد مع عشرات الفنانين والتقنيين الذين يعيشون هذه المغامرة الجريئة". ودعا البلدية إلى "تدارك الأمر قبل فوات الأوان". ووجه الممثل والمؤلف والمخرج توفيق الجبالي الذي يشرف على مسرح "التياترو"، إستغاثة: "إذا كان في كل يوم تقتلع شجرة، ويبكي رضيع، ويئنّ سجين... فلماذا لا يغلق مسرح؟ هل نقول: وداعاً مسرح مدار؟". وفتحت الأزمة نقاشاً واسعاً حول حال القلق وعدم الاستقرار التي يعيشها المسرح التونسي الذي ازدهر في الثمانينات والتسعينات في ظلّ الدعم الرسمي غير المشروط، وإلى حالة الخطر والتهميش والاضمحلال التي يعيشها فنّانو هذا المسرح اليوم، مع انّهم يقفون وراء النهضة المسرحيّة العربيّة منذ عقدين. وتجدر الاشارة إلى أن أعمال الثنائي رجاء بن عمّار والمنصف الصايم التي عرضت في مصر ولبنان والمغرب وفرنسا... تؤسس لمشروع فنّي متميز عن سائر تجارب فنّاني المسرح الطليعي التونسي براديكاليّتها، وبتركيزها على الجسد كحجر الزاوية في العمارة المشهديّة. ومن أبرز أعمال رجاء بن عمّار "أمل"، "ساكن في حيّ السيدة"، "فاوست"، "بياع الهوى"، وآخر عروضها بعنوان "وراء السكّة" مع مجموعة من الشبان الهامشيين، وأبناء الأحياء الشعبيّة وخريجي السجون، نال نجاحاً واسعاً في تونس وباريس و"مهرجان ليموج الدولي" في فرنسا.