خلال احتفال في البيت الابيض في 27 تشرين الثاني نوفمبر الماضي اعلن الرئيس الاميركي جورج بوش وبعد موافقة الكونغرس عن تشكيل لجنة ذات صلاحيات واسعة للتحقيق في ملابسات احداث الثلثاء الاسود واسند رئاستها الى هنري كيسنجر، وبعد ايام ألحق السناتور جورج ميتشل وكيلاً لتلك اللجنة وكما هو معروف استقال الاثنان لاحقاً، على ان تكون مدة عملها 18 شهراً، وقال كيسنجر في الاحتفال انه: "سيبحث عن الحقيقة اينما كانت ومهما كانت..." وهي صيغة تعني البدء من الصفر كما هو واضح. وكان الكونغرس شكل لجنة برئاسة السناتور بوب غراهام للتحقيق في مستوى اداء جهات جمع المعلومات وتحليلها. الاستنتاج الاول هنا هو فشل المسؤولين الاساسيين، وزير العدل جون آشكروفت ومدير وكالة التحقيقات الفيديرالية FBI روبرت مولر في تقديم حقيقة أحداث 11/9/2001 طوال 15 شهراً، وفي اعتقادي انه اذا كان ذلك التقويم صحيحاً فإنه تأخر كثيراً او هكذا يبدو، فعلى رغم قوة الادانة الاعلامية والسياسية لتنظيم "القاعدة"، وتوافر امكانات البحث والتحقيق عبر العالم وضخامتها، لم تقدم الى القضاء الاميركي او اي قضاء آخر قضية مقنعة باستثناء قضية الموسوي المهتزة، والذي كان مقبوضاً عليه وخاضعاً للتحقيقات الفرنسية قبل الاحداث، عدا ذلك ركام من الشبهات والشك. وليس معنى ذلك انه يوجد أدنى شك في ان الجناة عرب ومسلمون من الشرق الاوسط فهذا ثابت ومؤكد، ولا يعني ذلك ايضاً ان عقاب اسامة بن لادن على جرائمه السابقة وازالة امارة الظلام في افغانستان كانت تنقصهما الشرعية، كما ان الحرب العالمية على تنظيمات التطرف الاسلامي هي خدمة للتقدم، وهو ما سينتهي حتماً الى فتح ذلك الكهف المسمى النظام العربي، لكن القطعة الناقصة في المشهد هي: من وراء احداث الثلثاء الاسود 11 سبتمبر؟ ربما كان الاستهلاك السياسي الداخلي لها داخل الولاياتالمتحدة بهدف تمرير سياسات المحافظين الجدد، والمبررات التي قدمتها لتنفيذ الخطط والمهمات الاستراتيجية الاميركية ضمن النظام الدولي الجديد بعد نهاية نظام الحرب الباردة. وإضافة الى ان FBI هي هيئة تحقيق وليس جمع المعلومات وتحليلها، وإضافة الى توافر هدف سهل SOFT TARGET، فقد أدى الأمر الى ان الحقيقة لم تصبح من الاولويات على اجندة الادارة الاميركية فضلاً عن استفادة بعض الاطراف الخارجية من تأجيل الحقيقة أو ضياعها. والبعض الآخر استفاد من ذلك بتأجيل المواجهة مع الاسباب الحقيقية لنمو الارهاب والتطرف في مجتمعاته، والبعض الثالث استغل الطرح نفسه للتقرب من الادارة الاميركية والغرب لغض الطرف عن الصراعات السياسية وقضايا الحريات وحقوق الانسان بل إلحاقها تحت عنوان الارهاب. ومن يتذكر جريمة لوكربي يكتشف المفارقة بين الارتباك والاستثمار الاميركي للحادثة لمدة 5 سنوات الى ان هرب ضابط ليبي وكشف الحقيقة. انها المعضلة القديمة في السياسة عن العلاقة بين المصالح والقيم ومن بينها بالطبع قيمة الحقيقة. واذا عدنا الى لحظات الذهول اثر الاحداث، قال الرئيس بوش ان الولاياتالمتحدة تواجه عدواً لم تقابل مثله من قبل. وقال بن لادن: "... لا علاقة لنا بتلك العمليات، لكنني اوافق عليها تماماً". على رغم انها كانت لحظة قطف الثمار. وفي اليوم الثالث صرح كولن باول: "... لا تتوافر ادلة قوية لربط بن لادن بما حدث، لكنه يظل من الاحتمالات الاساسية...". وباستثناء ما قد يكون خفياً لم يعلن، فإن الموقف نفسه من يومها ما زال على ما هو عليه حتى الآن، لكن الخطط والمهمات لم تنتظر. عقب لحظات الذهول بدأ الحديث عن خطط الحرب على الارهاب التي تستمر ربما الى عشر سنوات وتشمل 60 دولة وبانواع مختلفة من المواجهات العسكرية والاقتصادية والسياسية. كان بن لادن اكثر بساطة وسطحية من ان يتدبر اهدافاً من عمليات بهذا الحجم من الاعداد والتعقيد والتي تبدو من نوع العملية الواحدة التي لا تتكرر، ولم يصدر عنه حتى الآن اعتراف مباشر واضح على رغم بعض المراوغة. كما ان تكرار نون الجماعة في تصريحاته سببه انها من مكونات الخطاب الديني. وكان ما سمي بتنظيم "القاعدة" مجرد حالة موقتة نتجت عن التمويل المباشر السخي وارض التدريب الواحدة وتقدم وسهولة الاتصالات، ومن قبل كان التنسيق ضد الاتحاد السوفياتي. وشمل تعداداً متنوعاً من التنظيمات والافراد وشظايا الجماعات والفرق، ولم يكن يشكل بحال تنظيماً هيكلياً وتراتبياً متماسكاً. وعندما بدأ الهجوم على افغانستان انهار كل شيء وعادوا شظايا تفرقها الاجتهادات والاهداف والثقافات والانتقاء من تلال القيل والقال في الفكر الاسلامي، بأكثر مما تجمعهم الايديولوجية، وهو قصور بنيوي قديم وحاد في نشأة الجماعات الاصولية. لكن شيئاً واحداً تبقّى من بن لادن، وهو تحوله الى الهام وايحاء لتلك الشظايا في انحاء العالم، وهذا ما صنفه الاخراج الاميركي الهوليوودي الذي قامت به اكبر ماكينة اعلام ودعاية في التاريخ في جانبيها الضميري النقدي والدعائي، بأكثر مما شكلته قدرات بن لادن المحدودة. نتج من المفهوم المتغير للارهاب غموض تحديد المتهم والعكس صحيح ايضاً، واتاح ذلك التغير والغموض صيغة مرنة تتكيف مع الجغرافيا السياسية التي تتنقل بينها الاهداف والمهمات الاستراتيجية الاميركية، لكن تلك المرونة تعثرت بل توقفت عند حدود العراق. وعند ذلك المنعطف الذي ينتهي ما بعد العراق يبدأ الاستفهام عما اذا كانت نتائج الثلثاء الاسود استنفدت مرحلتها الاولى بما فيها شغل الفراغ في وسط آسيا وتدمير حلم امبراطورية الظلام الاصولية. وبذا تبدأ مرحلة اخرى، هل تكون هي اوان الوصول الى حقيقة الاحداث ام انها ستخوض في غموض جديد؟ * كاتب مصري.