حاولت السيدة الاميركية اقناع موظف الامن في مطار "لوس انجليس" بالإسراع في اجراءات التدقيق والتفتيش لأن مكتب شركة الطيران أطلق النداء الاخير للمسافرين الى لندن. لكن الموظف الذي احتجزها مع زوجها العراقي لمدة ساعة كاملة، لم يهتم لعبارات الشكوى والتذمّر، بل استمر في التحقيق بطريقة استفزازية منفرة. وكانت الاسئلة من النوع السخيف المثير للغضب كأنها معدّة خصيصاً لإرضاء نزعة الانتقام. باشر الموظف الاستفهام بطريقة مريبة عندما سأل الزوج عن اسباب زيارته للاردن، كما يدل الختم المسجل على جواز سفره. واخبره العراقي بأنه حرص على المشاركة في جنازة صديقه الملك حسين. وكان من الطبيعي ان يفتح هذا الجواب باباً جديداً للاستنطاق ولمزيد من الاسئلة المتعلقة بتاريخ هذه الصداقة، وما اذا كانت مبنية على أسس سياسية ام لا! واحتفظ الموظف بلهجة التشكيك عندما سأل الزوجة الاميركية عن دوافع اختيارها للاقتران بعراقي ينتمي الى بلد معزول ومحاصر. ولما اجابته بأن كلامه يحمل لهجة الادانة، وبأن تدخله في الامور الشخصية يتعارض مع مهمته، قال لها بأن الحادي عشر من ايلول سبتمبر بدّل في اسلوب تعاطي الاجهزة مع الناس بحيث اصبح كل غريب موضع شك واتهام. هذه الواقعة التي تتكرر يومياً عشرات المرات في مطارات الولاياتالمتحدة، تعكس طبيعة السلوك العام الذي يمارسه الموظفون مع الاجانب، خصوصاً مع ذوي الملامح الشرقية والقسمات الآسيوية والاسماء العربية، ذلك ان التغيير العميق الذي تحدث عنه الرئيس جورج دبليو بوش، لم يربك سياسته الخارجية فقط، بل اربك كل الأسس والممارسات الاجتماعية الي تصدعت مقوماتها بفعل عنف الارهاب وقوة الصدمة الثقافية والامنية. وكان من نتيجة هذه الصدمة المروعة ان خرجت الى السطح الدوافع العنصرية الدفينة التي تعرض لها الاميركيون من ذوي الاصول العربية والاسلامية، تلك التي استغلها اسامة بن لادن لتوسيع الهوة بين ما وصفه بحضارة الاسلام في مواجهة النصرانية العلمانية. ويبدو ان حرب الانتقام في افغانستان ضاعفت من حدة المواجهة، الامر الذي فتح صفحات التاريخ على مواقف الغرب واعماله ضد المسلمين والعرب خلال اربعة عشر قرناً. ويتخوف المراقبون المحايدون من تداعيات الصراع لايمانهم بأن خسارة الولاياتالمتحدة ستكون اكبر بكثير من اي نصر عسكري تحرزه دول التحالف. ولقد نصح السير مايكل هوارد، استاذ التاريخ المعاصر في جامعة اوكسفورد، الرئيس بوش بضرورة انتقاء الخيار العقلاني المعتدل، خشية ان يحقق ارهاب الآخرين اهدافه بحيث يحول اميركا الى دولة ارهابية. وكتب هوارد سلسلة مقالات في الصحف البريطانية يقول فيها ان استراتيجية التحريض قد تنجح في حال ادى بوش الدور الذي أعده له اسامة بن لادن، وهو دور لا يحسد عليه لانه يتطلب الحسم بين خيارين خطرين: اي خيار الاستنكاف عن القيام بأي رد فعل، الامر الذي يشجع الارهابيين على تسديد ضربات جديدة… وخيار آخر توجهه نزعة الانتقام على نحو يزيد من كراهية المتضررين الابرياء لاميركا، ويقوي تيارات العداء ضدها في العالم الاسلامي. واوصى استاذ التاريخ باتباع طريق ثالث يقود الى تصحيح دور الولاياتالمتحدة في بلدان العالم الثالث بأسلوب مناهض لهستيريا الثأر والعنصرية المدمرة. يحرص الرئيس جورج بوش في كل خطبه على التأكيد بأن الولاياتالمتحدة بعد الثلثاء الاسود 11 ايلول لن تكون كما كانت من قبل. وهو يرى ان هذا التغيير سيلامس القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل ما يتعلق بالقيم الديموقراطية والعدالة والقوانين المصرفية والامنية الخاصة بمكافحة الارهاب. وكما ان هذا التغيير سيؤثر في علاقات بلاده بالخارج، كذلك سيؤثر في معايير الحريات والامن والامان في الداخل. ولقد برزت مظاهر هذا التغيير في القانون الذي وقعه الرئيس بوش وتبناه مجلس النواب وأقره الكونغرس بغالبية 98 صوتاً. ويعطي هذا القانون وكالات الاستخبارات ومكتب التحقيقات الفيديرالي اف بي آي صلاحيات واسعة تسمح بالتنصت والمراقبة الالكترونية وتشديد العقوبات على الذين يرعون الارهاب او يمولونه. كما يعطي الشرطة صلاحيات واسعة لتفتيش المنازل سراً والاطلاع على سجلات الشركات والتنصت على الخطوط الهاتفية والمحادثات التي تجرى بواسطة الانترنت. وعقب نشر القانون، اصدر وزير العدل جون اشكروفت الاوامر للمحققين والمدعين العامين بالشروع في الحصول على توصيات من المحاكم التي مددت فترة استجواب 352 موقوفاً، اضافة الى 254 معتقلاً على ذمة التحقيق. الى جانب تعزيز السيطرة على النشاطات السياسية والامنية، حرصت وزارة العدل الاميركية على اجتراح تشريعات صارمة لمنع تبييض الاموال، والعمل على تفكيك المرتكزات المالية لشبكات الارهاب في مختلف دول العالم. ويتوقع المصرفيون ان تدفع التحقيقات بقيادة واشنطن، الى رفض التعاون من قبل دول اخرى على اعتبار ان الحملات ضد الفساد يمكن ان تطال شخصيات نافذة، كما حدث في فرنسا والبرازيل. والمعروف في غالبية دول العالم الثالث، ان قوانين مكافحة تبييض الاموال لم تنجح بسبب تورط الحكومات او بسبب حماية المصالح الخاصة لمواطنين اثرياء. لكن الرئيس جورج بوش يصرّ على تنفيذ القانون لاقتناعه بأن هجمات 11 ايلول فكّكت النسيج الاقتصادي للنظام الاميركي. ويبدو ان اصراره على تطبيق التشريعات من دون اعتراض احدث ضجة لدى المثقفين والطلاب الذين حذروا من التمادي في تطبيقها خوفاً من الاصطدام بقوانين الحريات العامة ومبادئ العدالة. خصوصاً ان هذه التشريعات بررت قمع الاجهزة بطريقة منطقية سؤدي الى تقليص هامش الحريات، وجعل المجتمع الاميركي صورة مشوهة عن الانظمة الديكتاتورية. ولقد اثار المعلق الليبرالي والكاتب في مجلة "نيوزويك" جوناثان ألتر حفيظة الاكاديميين الذين انتقدوا تأييده لاسلوب التعذيب الجسدي، واعترافه بتحبيذ فكرة الجلد اذا كانت الغاية تخدم العدالة والحقيقة. وايده في هذا المجال المؤرخ جاي وينيك عندما كتب في صحيفة "وول ستريت جورنال" يقول ان اسلوب الضرب والتعذيب اجبر الارهابي الفيليبيني عبدالحكيم مراد على الكشف عن مؤامرة لنسف طائرات مدنية فوق الباسيفيك. وتساءل المؤرخ عن ضرورة تجنب التقييم الاخلاقي اذا كانت الغاية تخدم سلامة المجتمع وامنه. وحول هذه المسألة كتب المعلق ادوارد سبانوس يقول أن قانون وزير العدل اشكروفت يشبه الاجراءات الاضطرارية التي طُبقت عام 1933 ضد الشيوعيين في المانيا. يومها افتعل النازيون حريق ال"رايخشتاغ" واتهموا الحزب الشيوعي بأنه يهدف الى التنكيل بأعضائه. ومع ان المقارنة غير صحيحة لأن الادارة الاميركية لم تفتعل العملية الارهابية، لكنها على الاقل استفادت من تأثيرات الذعر لتقوي من سيطرة الاستخبارات واجهزة الامن على مرافق الحياة الاقتصادية والسياسية. ويرى المدافعون عن حقوق الانسان ان هدر المبادئ سيتم باسم الحفاظ على مصالح المجتمع وحماية امن الدولة. ويتخوف هؤلاء من ان يؤدي الاضطهاد الجماعي الى فقدان ارواح بريئة، كما كان يحدث في الاتحاد السوفياتي اثناء محكمة امن الدولة في عهد ستالين وبيريا. صحيح ان التعذيب الذي ينصح به الاعلاميون الاميركيون سيكشف عن اسرار وخفايا… ولكن الصحيح ايضاً ان الاعترافات المستخرجة بفعل ادوات التعذيب كثيراً ما تكون باطلة وغير صادقة. حدث في مطلع الخمسينات ان تعرض المجتمع الاميركي لحملة اعتقالات وملاحقات استهدفت كبار موظفي الدولة، ثم لم تلبث ان اتسعت لتشمل السياسيين والاكاديميين ونجوم السينما والمسرح. ولقد عرفت في حينه ب"الماكارثية" نسبة الى بطلها السناتور جوزيف ماكارثي الذي مثّل الحزب الجمهوري في الكونغرس من عام 1946 حتى عام 1952. ويبدو ان نجاحه في وظيفة القضاء منحه صدقية التمثيل لدى الناخبين الذين اختاروه بكثافة. واول اتهام طرحه ماكارثي ضد الشيوعيين في الولاياتالمتحدة، كان محصوراً بقائمة تضم 205 اشخاص في وزارة الخارجية، وبعد تعبئة الرأي العام كلف الكونغرس لجنة تحقيق تولت عملية استجواب المتهمين. ولكنها عجزت عن الحصول على ادلة دامغة بسبب فشل ماكارثي في تأمين القرائن والمستندات المطلوبة. وعلى رغم كل هذا، ظلت شعبيته تتنامى بسبب الرعب الذي احدثه تورط اميركا في حرب كوريا. وبعد مرور فترة قصيرة على حمى الذعر، استعان السناتور ماكارثي بفريق مناصر تبرع اعضاؤه بتقديم المعلومات عن اشخاص يمثلون في نظرهم، التهديد الامني لسلامة النظام الديموقراطي. وكشفت اوراق الاستخبارات المركزية ان الرئيس رونالد ريغان كان مكلفاً مراقبة نشاط اليساريين في هوليوود اثناء احترافه التمثيل. وبين الذين طاولتهم قائمة الاتهامات كان الجنرال دوايت ايزنهاور وعالم الذرة اوبنهايمر والمخرج والممثل البريطاني الاصل شارلي تشابلن. يقول المعارضون لقانون مكافحة الارهاب ان اسامة بن لادن واتباعه في منظمة "القاعدة" نجحوا في نزع سمة الديموقراطية عن الولاياتالمتحدة بحيث حلّ مبدأ الامن محل مبدأ الحرية. وكانت الدول الغربية تتباهى على دول المنظومة الاشتراكية بأن نهجها الديموقراطي انتج الاقتصاد الحر والصناعة المتقدمة والافكار النيّرة، في حين فشلت نظرية "الامن قبل الحرية" في تحسين حقوق الانسان وتطوير القيم الليبرالية وتعزيز مؤسسة العدالة. وعليه يقال ان انهيار الاتحاد السوفياتي جاء نتيجة منطقية لفشل النظام في تأمين الحد الادنى من الحريات، خصوصاً ان العلاج الذي ابتكره لينين وتروتسكي وستالين لكبت الديموقراطية، كان اسوأ من الشر الذي أُريد استئصاله. ويبدو ان الرئيس جورج بوش تنبه الى خطورة القانون الجديد، بدليل اعلانه المتكرر بأن الادارة لن تتخلى عن مبادئها على صعيد حقوق الانسان والاقتصاد الحر والمحافظة على القيم الدستورية. ولكنه من جهة اخرى أيّد الاجراءات الصارمة التي تعاقب الارهابيين بهدف تجنب حصول فظاعات جديدة. ومعنى هذا ان الاجهزة المختصة ستتولى هي مهمة تحديد الولاء للدولة، وتصبح هي مصدر القوة المركزية التي تؤمن الامن ولو على حساب انحسار ظل الديموقراطية. ويدعي وزير العدل جون اشكروفت ان المجموعات الارهابية استغلت المناخ الديموقراطي في الولاياتالمتحدة ودول اوروبا الغربية لكي تتسلل بواسطته الى مهرّبي المخدرات وتتعاون في ما بينها على انشاء شبكات لتبييض الاموال. وقال ان القانون الذي اقره الكونغرس يعطي الشرطة ووكالات الاستخبارات صلاحيات واسعة في الحملة المضادة للارهاب. ولكن القانون نفسه لا يحمي السياسيين والمواطنين العاديين من عواقبه الوخيمة ومن مخاطر استغلاله لتبرير مكافحة الارهاب. ذلك ان التنصت على مكاتب الحزب الديموقراطي ادى الى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، في حين ان التشريع الجديد يعطي مكتب التحقيقات الفيديرالي حق التنصت على كل الخطوط الهاتفية بحجة حماية الامن. وفي هذا السياق يمكن الاستفسار عن درجة التعذيب المسموح بممارستها في سبيل الحصول على اعترافات اخيرة من المتهمين! تقول سوزان فورنيه، المحاضرة في جامعة هارفارد، انه من السهل تصور الولاياتالمتحدة وكأنها تنجرف تدريجاً نحو الاصولية التي تحاربها. والاصولية، كما تعرفها فورنيه، هي ردّ فعل عنيف تجاه التغيير العنيف الذي يمس قيم المجتمع وثوابته. ولقد صوّر اسامة بن لادن خطر خطوات الحداثة والعولمة على الاسلام، معترفاً بأن الحضارة الغربية والديموقراطية الليبرالية والرأسمالية العالمية هي العوائق التي تحول دون انتصار دعوته. وهي دعوة سافرة لما سمّاه "صدام الديانات" بحيث يستنفر المشاعر المتطرفة للشعوب الاسلامية من افريقيا والشرق الاوسط حتى الصين واندونيسيا. ومع ان الرئيس جورج بوش يحاول اعطاء تنظيم "القاعدة" دوراً خطراً يهدد أسس النظام العالمي، الا ان حربه المشرعة في افغانستان، لا تزيد عن كونها حملة عقاب وتأديب تقوم بها دولة مهيمنة عظمى ضد قوة صغيرة تجرأت على تهديد استقرار السلام الاميركي! * كاتب وصحافي لبناني.