حين كتب المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، من أعماق زنزانة سجنه ملاحظاً ان "السياسيين الكبار، كما يقال، يبدأون حياتهم بلعن ماكيا فيللي، معلنين أنهم معادون له ولأفكاره، وذلك قبل ان يتحوّلوا الى تطبيق قواعده وأفكاره بكل أمانة وإخلاص" كان، من دون أدنى ريب يفكر في عدد كبير من السياسيين، وربما ايضاً في ستالين على رغم ان غرامشي كان مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي وزعيمه في ذلك الحين. ولكن، من المؤكد ايضاً ان غرامشي كان يفكر بنموذج اكثر قدماً من ستالين، وهو فردريك الثاني الكبير، ملك بروسيا. ذلك ان فردريك هذا، والذي خاض منذ تسلّم العرش، حروباً عدة تمثّل معظمها في غزوات لبلدان مجاورة، لم يكن، وهو بعد أمير شاب، ليكتفي بلعن ماكيا فيللي، بل تجاوز ذلك كثيراً: وضع واحداً من أهم الكتب التي رفضت أفكار المفكر الاستراتيجي الايطالي الكبير، فكرة فكرة. والكتاب، الذي نشر يومها في العام 1740 في اللغة الفرنسية من دون ان يحمل اسم مؤلفه، هو "مناوئ ماكيا فيللي". نشر الكتاب في لندن ولم يكن ناشره سوى فيلسوف فرنسا الاكبر فولتير الذي كان يرتبط بالأمير البروسي الشاب، بصداقة عميقة وكانا يتراسلان باستمرار. ونفهم هنا طبعاً ان فردريك البروسي ألف كتابه قبل وصوله الى العرش، مندداً فيه بالماكيافيللية، لكننا نفهم ايضاً ان فردريك نفسه اذ صار، لاحقاً، ملكاً حكم تحت اسم فردريك الثاني، طبق نظريات ماكيا فيللي حرفياً. ومن هنا لم يكن غرامشي مخطئاً في حقه، حتى وإن كان استنكف عن تسميته. اذاً، كان فولتير هو من نشر الكتاب الذي لم يكن المؤلف الوحيد الذي وضعه فردريك ودائماً في الفرنسية لكن مؤلفاته كلها كتبت - وصلّح فولتير معظمها - قبل تسنم الأمير العرش، بل ان حكايته تقول لنا انه في تلك السنوات المبكرة من حياته كان يبدو "حالة ميئوساً منها"، اذ بلغ من انطوائه الى الفلسفة والفكر ما جعل اباه فردريك غيوم الأول، يطارده دون هوادة، ويحبسه في الحصون، ويعهد به الى كبار جنرالاته يكسرون حدة اهتمامه بالفكر موجهينه صوب الجندية والسياسة. وقد عاش فردريك من جراء ذلك، صراعاً عنيفاً، انتهى قبل وفاة ابيه ووصوله العرش بفترة يسيرة، الى تسوية: ينسحب الى قصر رينسبرغ الحصين، ويحاط هناك بالكتب والاصدقاء من كتاب ومفكرين، لكنه في الوقت نفسه يتهيأ ليكون ملكاً. والحال ان الرهان نجح في نهاية الأمر. ويجمع المؤرخون، على اية حال، على ان فردريك - الذي نجد اسمه ومؤلفاته مذكورة في الموسوعات الفلسفية جميعاً - حين حكم اصبح من ذلك النوع من "المستبدين العادلين" الذي كان الفلاسفة يحلمون بهم. وهكذا، حين خاض الحكم ظل مقرباً المفكرين منه، كما اهتم بالثقافة وبالعدالة، اهتمامه بالحروب والغزوات. وكان بهذا كله المؤسس الحقيقي لعظمة الدولة البروسية، ولا سيما انه كان من جعل ابناء شعبه البروسيين يفهمون تصوره لعقلانية الدولة. اذ انه، حتى وأن كف عن الكتابة منذ تسلمه العرش، فإنه لم يكف عن التفكير. و"مناوئ ماكيا فيللي" الذي كان آخر ما كتبه فردريك وهو بعد أمير، وصدر في لندن في العام نفسه الذي خلف فيه اباه على العرش، هو كتاب حكيم وواع، لكن مشكلته الاساسية في نظر الباحثين تكمن في انه لم ينظر الى كتاب "الأمير" لماكيا فيللي - وهو موضع هجومه - ضمن ظروفه التاريخية، وعلى ضوء تاريخانية ماكيا فيللي ومسؤولياته، بل عامله وكأنه كتاب في فلسفة الحكم وفلسفة الدول كتب كقواعد ثابتة تصلح لكل مكان وزمان. لكن الحقيقة في مكان آخر، الحقيقة هي ان ماكيا فيللي انما شاء وضع قواعد للحكم والسلطة تتناسب مع زمنه ومع ظروف ايطاليا في ذلك الزمن. ولكن غدر فردريك في موقفه لا يأتي من "تحامله" على ماكيا فيللي نفسه، بل يأتي من ملاحظته كيف ان الماكيافيللية نفسها كانت من الانتشار لدى الحكام والمفكرين المبررين لهم، في القرن الثامن عشر، مع نشوء الدول الحديثة، بحيث كان لا بد من الرد. ورد فردريك البروسي في "مناوئ ماكيا فيللي" كان، بعد كل شيء، عميقاً وواضحاً. ولعل فردريك كان في موقع يمكنه حقاً من ان يقول ان العلة الأساس في كتاب "الأمير" تكمن تحديداً في ان ماكيا فيللي وضع كتابه وصاغ ما فيه من افكار من دون ان يعبأ بشرح جذور دور الأمير وطبيعته. وفي كتابه، وبعد ان يقول فردريك ان كتاب "الأمير" هو للسياسة، على شاكلة ما كانه كتاب سبينوزا للايمان، فاذا كان هذا الاخير يكتب لنسف كل ايمان، فإن ماكيا فيللي "يفسد السياسة وينحو الى تدمير كل أسس الأخلاق السليمة. فاذا كانت اخطاء الأول مجرد أخطاء في التأمل، فإن اخطاء الثاني تطاول الممارسة نفسها". وهذا أخطر كثيراً في رأي فردريك" ذلك إنه "اذا كان اللاهوتيون قد دقوا أجراس الخطر في وجه سبينوزا واستنفروا السماوات ضد هجومات هذا الفاسق، فإن ماكيا فيللي لم يهاجم إلا من قبل بعض الاخلاقيين، بينما ناصره ودافع عنه اقطاب السياسة وعدد كبير من أقطاب الفكر ولا يزالون يفعلون حتى اليوم". ومن هنا يعتبر فردريك نفسه، حين يقارع حجة ماكيا فيللي، مدافعاً عن "الانسانية ضد وحش يريد تدميرها" فكيف يفعل هذا؟ عبر اعتناقه مبدأ الدولة التعاقدية، مستعيراً افكار الإنكليزي لوك "ولكن بطريقة اقل مناوأة للنزعة التاريخية" بحيث يرى "جذور المجتمع المدني في اتحاد يكون هدفه الدفاع المتبادل بين المتحدين، شرط ألا يكون هؤلاء افراداً، بل جماعات عائلية اولية". ويضيف فردريك هنا ان تصوره للدولة يقوم على اعتبار وظيفة هذه "الاهتمام برفاه المواطنين، والدفاع عنهم. والأمير - في هذا كله - يجب ان يكون المسؤول الأول الذي يتولى هذه المهمة من دون ان تكون مهمته التوسع العسكري وتدعيم عرشه". والحال ان فردريك ناقض ماكيا فيللي على هذا الخط بالذات. حتى وإن كان - بحسب بعض ناقديه - قد دعم آراءه بجملة من افكار فلسفية، ومواعظ فصيحة، سيقال لاحقاً ان فولتير كان هو من اصلح من شأنها وهذبها ومحاها احياناً، معطياً الكتاب طابعه النهائي كبحث نظري سهل القراءة، ما جعل الكتاب في النهاية يبدو وكأنه يضع في مواجهة تقنيات الماكيافيللية، نزعة انسانية اخلاقية تعطي السياسة طابعاً اكثر انسانية. ولا سيما حين يقول فردريك في الكتاب "ان ليس ثمة من وجود لشعور لا ينفصل عن كينونتنا قدر الحرية، فمنذ الإنسان الأكثر تمدناً وحتى الفرد الأكثر همجية نعرف ان الحرية كامنة داخلنا. وبما اننا نولد من دون قيود، يمكننا ان نتطلع الى ان نعيش من دون ضوابط قاهرة. وهذه الذهنية الاستقلالية هي التي انتجت للبشرية رجالها الكبار، وأعطت المجال لولادة الحكومات التي نسميها جمهورية ... ومن هنا لا يمكن لأحد ان يقنع الجمهوريين بأن يعينوا على انفسهم سيداً، إذ سيقولون لك عندئذ: افضل لنا ان نتعلق بالقوانين من ان نتعلق بنزوات رجل واحد". فهل نحن في حاجة الى ان نذكر هنا بأن فردريك البروسي، حتى وإن كان حين حكم اشتهر بكونه مستبداً عادلاً كما أشرنا، سينسى منذ تسلمه الحكم معظم ما كتبه في هذا النص الهام؟ مهما يكن من الأمر، نعرف ان فردريك كان خلال العقود الثلاثة الأولى من حياته، مفكراً طموحاً يتطلع الى ان يكون فيلسوفاً لا يشق له غبار. وهو حين تسلم الحكم في الثامنة والعشرين من عمره 1740 وحتى رحيله في العام 1784، يعيش على أية حال تناقضاً كبيراً بين تفكيره وممارساته حيث خاض بالتدريج معظم الحروب الأوروبية في ذلك الحين، مدافعاً عن بلاده احياناً، ولكن مهاجماً بلاد الآخرين في احيان كثيرة، عاقداً تحالفات مع مستبدين غير عاديين. بحيث كان التساؤل مشروعاً: اين اضحت كل احلامه القديمة؟ وأين صار نقضه لماكيا فيللي هو الذي عاد وطبق نظريات "الأمير" بحذافيرها؟ ابراهيم العريس