حتى أيامه الأخيرة ظل باروخ مبارك سبينوزا، الفيلسوف الهولندي من اصل برتغالي، يحتفظ بين اشيائه التي يحرص عليها، بثوب ممزق. وكان يحلو له ان يري هذا الثوب لزواره في كل مرة كان الحديث فيها يدور حول الدين والفلسفة. والسبب، ان ذلك الثوب شهد عملياً محاولة اغتيال سبينوزا، طعناً بالخنجر على يد يهودي متعصب، شاء ان ينفذ على طريقته، حكم الحرمان الذي أصدره مجمع الحاخامين في حق سبينوزا، الحكم الذي كان من أثره ان طرد سبينوزا من الجالية اليهودية واعتبر مارقاً كافراً، لا يؤمن بالتوراة والتلمود. في بعض الأحيان كان سبينوزا يعرض الثوب بفخر وتفكهة، لكنه في احيان اخرى كان يعرضه ليبرر عدم رغبته في نشر كتبه، أو حتى اقدامه على نشر الكتاب الأهم بين كتبه وهو "المبحث اللاهوتي - السياسي" قائلاً لمحدثيه: اذا كانوا اخطأوني في المرة الأولى، قد لا يخطئونني في المرة الثانية. والحال أن سبينوزا ظل حتى موته، وبعد موته، مكروهاً من أبناء جلدته منبوذاً من أوساطهم، لأنه تجرأ وانتقد وحوّل انتقاداته الى كتبٍ تعتبر اليوم من تراث الانسانية وفكرها الحر. عندما نشر سبينوزا كتابه الأشهر - الى جانب "كتاب الاخلاق" - ونعني به "المبحث اللاهوتي - السياسي" حرص على ان ينشره من دون اسم المؤلف ومن دون اسم الناشر، بل زور مكان الطبع. وكان ذلك في العام 1670، وللفيلسوف من العمر ثمانية وثلاثين عاماً. أي انه كتبه في مرحلة متقدمة من نضجه الفكري واللاهوتي والسياسي. وبعدما كان تحول من تلميذ لأفكار ديكارت الى ناقد لأفكار هذا الأخير، وبعدما كان خالط الأوساط البروتستانتية طويلاً، واطلع على كتابات عدد من كبار مفكري اليهود وتأثر خصوصاً بالعربي اليهودي موسى بن ميمون، ورأى ان ثمة في كل ما قرأه ودرسه تناقضات لا يمكن للعقل الحر الواعي ان يقف منها على حياد. غير ان ما لا بد من الاشارة اليه هنا هو أن الحرم والطرد كانا وقعا على سبينوزا قبل عقد ونصف العقد من اصداره "المبحث اللاهوتي - السياسي" وكتابته "كتاب الأخلاق"، وليسا، اذاً، بسببهما مباشرة. ينقسم كتاب "المبحث اللاهوتي - السياسي" الى ثلاثة اقسام رئيسية. أولها، ويحتوي على الفصول من الأول الى الثالث عشر، وفيه يعالج تفسير الكتابات اليهودية المقدسة. ويعتبر، بحسب دارسي حياة سبينوزا وأعماله "أول تاريخ نقدي للعهد القديم"، حيث ان الفيلسوف يتحدث هنا عن انبياء اسرائيل وعن المعجزات. وهو اذ يعترف بقيمة هذه المعجزات ويفسر افتتان القدماء بها، يؤكد انها الآن يمكن ان تفسر تفسيرات طبيعية من دون ان تُنكر. وفي هذه الفصول أيضاً يحاول سبينوزا تفسير تاريخ العبريين، تفسيراً عقلانياً خالصاً. واذ يأتي سبينوزا هنا الى "العهد الجديد" يبدي بعض التحفظ لكنه يقر له بقيمته الكامنة في كشفه للانسان عن الكثير من الحقائق المهمة والبسيطة. وفي القسم الثاني الفصلان الرابع عشر والخامس عشر يتحدث سبينوزا عن الايمان بوصفه منبع الدين، ليقول ان الايمان ليس المظاهر الاحتفالية الطقوسية الخارجية، بل هو "طاعة الله بروح صافية نقية مأخوذة بالعدل والإحسان". وفي هذا السياق بالذات تجد سبينوزا مفرقاً بين اللاهوت القائم على الوحي والفلسفة القائمة على العقل، مؤكداً ان الاثنين يسيران في خطين متوازيين، وليس من الضروري لهما ان يلتقيا. وهو في هذا، وبكل وضوح، يلتقي مع المدرسة الرشدية التي في احد جوانبها كانت ترى الأمر نفسه، حتى وإن كان ابن رشد حاول التملص من نظرته الاساسية هذه في "فصل المقال" حيث ركز على الاتصال بين الخطين. وفي القسم الثالث من "المبحث اللاهوتي - السياسي"، يتوقف سبينوزا عن الخوض في المسائل الدينية، لينتقل الى الخوض في السياسة في شكل مباشر. وهنا يبدو واضحاً ان هذا البعد الفكري هو ما كان يهم سبينوزا أكثر، حتى وان كان المؤرخون والباحثون آثروا دائماً التركيز على القسمين الأولين من الكتاب. فبالنسبة الى هؤلاء كانت حياة سبينوزا وأفكاره في صراع دائم مع رجال الدين، ومن هنا يتوجب الاهتمام بموقفه من الدين. ومع هذا يتمتع القسم الثالث، شبه المسكوت عنه في "المبحث"، بأهمية فائقة، لأن سبينوزا خاض فيه مسألة كان سبقه وزامنه في الخوض فيها كبار مفكري تلك المرحلة في أوروبا: مرحلة بناء الأمم وبحث الفئات الاجتماعية الصاعدة، عن مسالك سياسية تحل محل الحكم المطلق والارستقراطي والاقطاعي الذي كان مهيمناً حتى ذلك الحين، في حمى الكنيسة وتحت رعايتها. وهكذا، في الفصول الخمسة الأخيرة من الكتاب، نجد سبينوزا متحدثاً عن الدولة والحق الطبيعي والحق المدني كما عن السلطة والسيادة. ونراه هنا يتبنى نظرية العقد الاجتماعي التي كان الانكليزي هوبس صاغها وسيطورها جان - جاك روسو لاحقاً في شكل خلاق. ولكن، لئن كان هوبس يستخدم النظرية، حسبما يقول كاتبو سيرته وسيرة سبينوزا، لكي يبرر الحكم المطلق والفردي كما نرى في "ليفياتان"، فإن سبينوزا، ومن دون ان يبدي أدنى انتقاص ازاء السلطات المتشكلة، يبدي تفضيله لقيام نظام ديموقراطي "شرط الا يفوت هذا النظام ان يجعل من مبدأ الحرية الدينية، واحداً من أسس تكوينه". وإذ يصل سبينوزا الى هذا الاستنتاج، يختم كتابه عبر مرافعة حماسية يدافع فيها عن حرية التعبير. بفضل هذا الكتاب اعتبر سبينوزا وفكره، ممهدين لقيام الفكر العقلاني، الألماني خصوصاً، في القرن الثامن عشر، وإن كان اصحاب هذا الفكر، حتى في معرض حديثهم عن الدَين الذي لسبينوزا في رقابهم، حرصوا دائماً على ان يبدوا مآخذهم على هيمنة الحس الديني على تفكير سبينوزا. والحقيقة ان هذه المآخذ تدفع الى التساؤل عن السبب الذي جعل الجالية اليهودية في امستردام تطرد سبينوزا اذا كان حسه الديني قوياً الى حد انه شكل مآخذ لاحقاً عليه. والجواب هو ان الدين الذي عبر عنه سبينوزا لم يكن اليهودية المنغلقة، بل نوعاً من يهودية ليبرالية عقلانية منفتحة على العقلانية البروتستانتية التي كانت في مرحلة النمو والابهار في ذلك الحين. ولد سبينوزا في امستردام في العام 1632 ابناً لأسرة كانت فرت من بطش محاكم التفتيش في البرتغال قبل ذلك بعقود. وهو تلقى في البداية دراسة لاهوتية يهودية خالصة، كما تعلم مهنة صقل العدسات بعد ان عمل زمناً في تجارة التوابل. وحين شب عن الطوق، بدأ يخالط الأوساط المسيحية، ولا سيما مفكراً يسوعياً، خلع ثوب الكهنوت يدعى فان دن اندن. وكان معظم الذين يخالطهم سبينوزا من دعاة التفكير العقلاني الحر. وهكذا، حين انصرف لاحقاً الى التعمق في كتابات اليهود الماديين، كانت حواراته مع المسيحيين الليبراليين مهيمنة عليه. وهذا كله اعتبره مسؤولو اليهود في امستردام هرطقة ورفقة سوء، فطردوا سبينوزا ونبذوه منذ العام 1656، ما دفع واحداً من متعصبيهم الى محاولة قتله. ومنذ ذلك الحين صار سبينوزا مضطراً الى تغيير مكان اقامته، متنقلاً بين لاهاي ورينسبورغ، في الوقت نفسه الذي انكب فيه على وضع أهم كتبه مثل كتابه عن مبادئ الفلسفة الديكارتية و"رسالة وجيزة في الله والانسان وهنائه" و"الاخلاق" وغير ذلك. ابراهيم العريس