أخيراً، أتيح لوزير الخارجية الاميركي ان يعلن هذه المبادرة سيئة الحظ، المؤجلة مراراً، المفعمة بالآمال والطموحات، لكن خصوصاً الطائرة خارج سرب الفكر الصقوري المهيمن على الخطاب والممارسة الاميركيين. مرة جديدة، يلعب كولن باول الدور الذي اختطه نفسه، أو لعله رسم له، في هذه الادارة. كأنه كُلّف أو لعله كَلّف نفسه تجميل الوجه البشع للسياسة الاميركية. الرجل صاحب رؤية، ما في ذلك شك، وقد يكون الوحيد في هذه الادارة الذي لا يخجل بنياته الحسنة، بل يدافع عنها بحزم وثبات واناة. ولكن كيف تترجم هذه الصفات الايجابية في سياسة جورج دبليو؟ هنا جوهر المسألة. والمسألة تتوقف على الظروف. فقد يأخذ الرئيس احياناً بأفكار وزيره ويسير في خطه، ثم لا يلبث ان يقفز الى الخط الآخر. لا، المسألة ليست مسألة مزاج، وانما هي لعب مدروس على الخطين. فلكل لحظة وتيرتها ومتطلباتها. غير ان الشدة والتطرف يبقيان السمة السائدة لسياسة هذه الادارة، ولتمرير الخيارات "الأصولية" ينبغي من وقت الى آخر المرور بوقت مستقطع في قطار الاعتدال. لا داعي لاطلاق النار على "مبادرة" باول، ففيها كلام جميل عن الديموقراطية والمجتمع المدني والتنمية والاستثمار و... "الشراكة"!. لكن الشفافية - نعم الشفافية - تقتضي ان لا ينطلق الاميركيون من اعتقاد جامد بأن امامهم في الشرق الأوسط شعوباً خاماً لا تفقه شيئاً ولا ترى ما يحصل، وإذا رأت فهي لا تفهم ولا تتفاعل أو تتأثر. الأكيد ان هذه الشعوب تحتاج وتتوق الى كل "الفضائل" العصرية التي أشار اليها باول، بل تحتاج اليها كلها في وقت واحد، نظراً الى النقص الفادح في تأهيل المجتمعات وهيئاتها، والدول ومؤسساتها. لذا فهناك حاجة أكبر الى تحديد الأولويات. لا شيء في مبادرة باول يمكن ان يقال له كن فيكون، ولا شيء يمكن ان يتحقق اصطناعاً لمجرد ان هناك ضغطاً سببته احداث 11 ايلول سبتمبر أو سواها. بل لا يمكن اقناع الرأي العام العربي بأن الخيار الوحيد هو الحرب لإنشاء ديموقراطية في العراق. كما لا يمكن اقناع أحد بأن الأهم اليوم هو اجراء انتخابات فلسطينية وليس منع مجرمي الحرب الاسرائيليين من الاستمرار في القتل والتدمير والاعتقال. وماذا يتصور الاميركيون ان يكون موقف أي مجتمع مدني منظم ومؤهل، هل تستقيم أي ديموقراطية عربية فيما يتكرس الظلم والاغتصاب والعنصرية على أرض فلسطين؟ ألا يعلمون ان المنظمات غير الحكومية في الغرب هي اليوم الوحيدة المدافعة عن حقوق الفلسطينيين بمعزل عن مواقف الحكومات؟ في الوقت الذي كان باول يعلن مبادرته، كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يحتفل في الدوحة مع الجنرالات بنجاح مناورة "نظرة من الداخل"، استعداداً لحرب تبقى مرفوضة لذاتها في المجتمعات العربية التي باتت مشمئزة من الولاياتالمتحدة ومن النظام العراقي سواء بسواء، فهذه ديكتاتورية عالمية وهذا ديكتاتورية اقليمية. في الوقت نفسه ايضاً - كان دوغلاس فايث، أحد نواب رامسفيلد، يعمق التنسيق العسكري مع الاسرائيليين للاطمئنان الى استعداداتهم للحرب والعناية بتزويدهم ما قد ينقص ترساناتهم من اسلحة حديثة. وإذ اطمأن ارييل شارون الى ان الحرب ماضية في الاتجاه الاستراتيجي الذي ترتاح له اسرائيل، فإنه لم يخف استنتاجه الأحمق بأن هذه الحرب ستجعل العرب يدركون ان خيارهم العسكري قد سقط، وبالتالي فإنهم سيقبلون لاحقاً ب"حلول وسط" في المفاوضات. كان لا يزال يظن ان الخيار العسكري مرهون بقوة العراق! هذا الفارق المفزع، بين ثرثرات باول للعرب وقهقهات رامسفيلد و"احتفالات" شارون، هو المشهد الذي يراه الرأي العام العربي، ومن الغباء افتراض انه لا يفهمه. نعم، التغيير مطلوب وواجب، عند العرب كما عند الاميركيين، خصوصاً انهم متساوون: فنقص الديموقراطية لم يعدم الاعتدال كتيار رئيسي عند العرب، أما تخمة الديموقراطية عند الاميركيين فلم تمنعهم من انتهاج سياسات قصيرة النظر ومتطرفة حيال العرب. ولا يمكن الولاياتالمتحدة ادعاء "المساعدة" على تعزيز الديموقراطية فيما هي متمسكة بسياساتها الرعناء.