سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" زارت كردستان العراق ... وذاكرة زعيم وشعب . مسعود بارزاني : قلت لصدام جئتك سابحاً في بحر من الدم مقابر جماعية في صحراء عرعر وتجارب كيماوية على المفقودين 1
كان ذلك في ربيع 1991. لا اللقاء سهل ولا المصافحة بسيطة. وبين الرجلين اللذين لم يلتقيا منذ النصف الأول من السبعينات ألف سبب لجعل اللقاء مستحيلاً والمصافحة محظورة. ومع ذلك لا بد أحياناً من تجرع كأس المرارات وان كانت بطعم السم. عاد جلال طالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني من بغداد برسالة صريحة مفادها ان القيادة العراقية تصر على أن يشارك مسعود بارزاني رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني شخصياً في الحوار. لم يكن القرار سهلاً على نجل الملا مصطفى بارزاني. فاسم الرجل الذي سيلتقيه في بغداد صدام حسين. صور كثيرة كانت تغري برفض الدعوة: مجزرة حلبجة ورائحة الغازات السامة، حملة الانفال وآلاف القرى المقتلعة وأكثر من 180 ألف قتيل ومفقود. وعلاوة على الصور الجرح الشخصي النازف: المصير المجهول والمحتوم لثلاثة اشقاء وعشرات الأقارب المباشرين وثمانية آلاف من العشيرة البارزانية. ومع الذكريات الحية مشاهد من ذاكرة السبعينات لا تقل قسوة. التفت مسعود بارزاني حواليه فسمع أكثر من نصيحة بعدم الذهاب. لكنه رأى أبناء كردستان العراق مبددين في الأراضي الايرانية والتركية بعدما نجح صدام في قمع انتفاضة الأكراد بعد انتفاضة الجنوب. اسكت مسعود مشاعره الشخصية وانحنى لمصلحة شعبه وسلك طريق بغداد. سألت الرجل الهادئ عما قاله لصدام في مستهل اللقاء فتفادى الاجابة المباشرة فهو لا يحب الحديث عن شخصه أو مساهمته. وحين كررت السؤال ملحاً أجاب: "قلت لصدام، جئت اليك سابحاً في بحر من الدم ...". وسكت مسعود قليلاً كأن الأحزان استفاقت دفعة واحدة. لم يبالغ مسعود في الوصف. فمن يتصفح حياة كردستان العراق في العقود الماضية يطالعه الدم المتروك على صخور الجبال وعلى طرق النزوح المتعرجة. لكن المتسلل اليوم الى العراق، من شماله، لا يستطيع نسيان ان العراق بأسره عائم على بحر من الدم. ضحايا حروب الخارج ينامون في التراب الصعب الى جانب ضحايا القمع وحروب الداخل. وفي بيوت كثيرة أمهات ينتظرن عودة أصحاب الصور المعلقة على الجدران. ينتظرن عودة من لن يرجع أبداً. هذا من دون أن ننسى قوافل المعوقين. يضاعف التدهور الاقتصادي آلامهم فتختلط أحزانهم بأحزان الأرامل والثكالى المتشحات بسواد تتجدد دائماً أسباب ارتدائه. وأقسى ما يخشاه الصحافي الزائر أن لا يكون العراق موعوداً في المستقبل القريب بغير السباحة في بحر جديد من الدم. من نافذة الغرفة يبدو العالم جميلاً. القمر يسهر فوق الجبال. والهواء الناعم يداعب أشجار البلدة الغارقة في هدوء عميق. لا شيء يدعو الى القلق في مصيف صلاح الدين في كردستان العراق. المصالحة الكردية - الكردية تزداد رسوخاً. الأرض في عهدة اليشماركه. والفضاء في عهدة "الحظر الجوي". والنظام الحاكم في بغداد يزداد انشغالاً بمصيره ومصير رئيسه، فسيد البيت الأبيض تعهد اقتلاع الاثنين. لا شيء يدعو الى القلق. الأمن مستتب. وأحوال الناس هنا أفضل مما هي في سائر انحاء العراق. لا مجال للجوع. فحصة كردستان من برنامج "النفط في مقابل الغذاء" 13 في المئة تفوق حاجتها. الحاضر أفضل من الماضي. لم يحدث أن تمتع الأكراد في شمال العراق بمثل ما هو قائم اليوم. قرارهم في يدهم. السلطة المركزية انسحبت منذ 1992 تاركة الأكراد ليقتتلوا على ملء الفراغ. لم يخيبوا ظنها. اقتتلوا وقسموا المنطقة المحررة. لكنهم يرجعون الآن للتدرب على رقصة التعايش تحت خيمة النصائح الأميركية، فالأجواء حبلى بعاصفة تمس مصير العراق ومصيرهم. لا يجاهر المسؤولون الأكراد بأي قلق. ولا يعترف المواطنون العاديون بأي خوف. ربما لأن الجميع يشعر باستحالة أن يكون المستقبل أسوأ من الماضي. وربما لشعور المسؤولين بأن العالم تغيّر و"ان المعركة مختلفة هذه المرة". لا شيء يدعو الى القلق. لكن الزائر لا يستطيع أن يمنع نفسه من رؤية علامات الاستفهام ترتسم فوق الجبال وعند المنعطفات. علامات استفهام حول مستقبل كردستان، وحول مستقبل العراق برمته. ووراء الطمأنينة الظاهرة يستطيع الصحافي أن يستشف وعورة الأيام الآتية. وكردستان مدرسة في وعورة التضاريس والتواريخ والاستحقاقات. منذ لحظة عبور النهر لدخول الأراضي العراقية يستقبلك ظل كبير يرافقك حتى عبور النهر في الاتجاه المعاكس. ظل صدام حسين الذي لا يمكن كتابة قصة العقود الثلاثة الماضية من حياة كردستان من دون التوقف طويلاً عنده. وقصة صدام مع أكراد بلاده شديدة الوعورة والتقلب، إذ انها انتقلت من ذروة الأمل في البدايات الى ذروة الألم في الفصول اللاحقة. في 11 آذار مارس 1970 وقع "السيد النائب" مع الملا مصطفى بارزاني اتفاق سلام. وللمرة الأولى تجرأ مسؤول عراقي على الاعتراف خطياً وعلناً للأكراد بحقهم في حكم ذاتي. ولم يكن ذلك المسؤول الشاب المندفع إلا صدام حسين الذي كان يدير ببراعة لعبة الامساك بالخيوط ويدير بلا رحمة لعبة صعوده الى القمة. وبعد خمسة أعوام سيوقع "السيد النائب" نفسه وهذه المرة مع شاه ايران اتفاق الجزائر منزلاً بالأكراد نكبة ختمت عملياً مسيرة قائدهم مصطفى بارزاني الذي سيسلم العبء والأمانة الى نجله مسعود. كان ربيع التفاهم عابراً وقصيراً. في مطلع الثمانينات سيذهب "السيد الرئيس" صدام حسين الى الحرب مع ايران. وفي النصف الثاني من العقد سيوجه الى الاكراد ضربات تقشعر لها الأبدان: الغازات السامة في حلبجة وحملات الانفال بكل ما تعنيه من اقتلاع قرى وقتل وتشريد ومفقودين. لم يكن العالم مستعداً للاستماع الى استغاثات الأكراد فقد ارتاحت دول كثيرة الى محاصرة العراق. نار الثورة الخمينية داخل الحدود الايرانية واستنزافها. عاد صدام حسين "منتصراً" من حربه مع ايران. جيش كبير ودولة غنية مثقلة بالديون. من عادة العراق أن يطالب بدور أوسع من حدوده. ولا حدود لشهية صدام الذي اعتقد دائماً بأن لا شيء بعد القصر غير الاقامة في صدارة قصر التاريخ. ولم تتأخر مغامرة غزو الكويت. ولم تتأخر عاصفة الصحراء. انتفض الشيعة في الجنوب. غرقت الانتفاضة في الثارات ثم أغرقها صدام بالحديد والنار. انتفض الأكراد فارتد صدام عليهم وكان النزوح الكبير. حضهم جورج بوش الأب على الانتفاضة ثم غسل يديه. لم يعدهم بشيء قال. ولم يكن أمام قادتهم غير تجرع مرارة مصافحة الرئيس العائد من "أم المعارك" مثخناً من دون أن يبدل حرفاً في قاموسه. *** متعب مسعود بارزاني. يفضل العمل على الكلام. وحين يوافق على لقاء صحافي يفضله قصيراً فهو من أنصار الأجوبة القصيرة. لا يحب أن يتحدث عن دوره وشخصه. وعلى عادة الواثقين لا ينهمك بتلميع صورته. لكنه اختار هذه المرة مشكوراً فتح الباب لأكثر من لقاء مثرياً سلسلة "يتذكر" بشهادة استثنائية، فقصة الرجل تعبير صارخ عن قصة شعبه. ولد مسعود بارزاني في 16/8/1946 في جمهورية "مهاباد" التي أعلنها الأكراد على الأرض الايرانية. وكان والده قائداً للقوات المسلحة في الجمهورية التي لن يتاح لها اطفاء شمعتها الأولى. سقطت الجمهورية فعاد الطفل مع والدته الى كردستان العراق فيما أعاد القدر للوالد مصيراً آخر ومواعيد أخرى. قرر الملا مصطفى ألا يستسلم للقوات الايرانية أو العراقية. واختار خمسمئة من رجاله واندفع في مسيرة متعرجة تحت النيران المطاردة الى أن بلغ الاتحاد السوفياتي. ولن يرجع الى العراق الا بعد قيام ثورة 9581 وصدور عفو عنه. وبعد ثلاثة أعوام ستندلع الثورة الكردية مجدداً وفي العام التالي سيطلق مسعود رصاصته الأولى فيها وسيكون حاضراً منذ 1962 في معارك البيشماركه والاتفاقات والانهيارات. كم مرة التقيت صدام حسين بعد انتفاضة 1991؟ - أكثر من مرة. كم كان صعباً عليك لقاء صدام بعد حملة الانفال وقمع الانتفاضة الكردية والجروح الشخصية المتعلقة بأشقائك وأبناء عشيرتك؟ - بعد الانتفاضة وما تبعها اثيرت فكرة اجراء حوار فقد كان الوضع صعباً ومأسوياً. في المرة الأولى ذهب وفد كردي برئاسة الاستاذ جلال طالباني في نيسان ابريل 1991 ومكث اسبوعاً في بغداد. عاد الوفد وقال لي ان المسؤولين في بغداد يلحون على أن تزورهم. لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة إلي. ولو أردت الاستسلام للمشاعر الشخصية لرفضت على الفور. فكرت في مصلحة شعبي واستبعدت الجانب الشخصي. قررت ألا اتخذ أي موقف يمكن أن يتسبب في وقف الحوار الذي كنا نأمل بأن يساهم في خفض المعاناة. قلت لرفاقنا انني لن أذهب في اطار التكتيك والمناورة، بل اذهب للاتفاق اذا كانت هناك فرصة لوقف عذابات العراقيين أو وقف جانب منها. ذهبنا في السادس من شهر أيار مايو والتقيت صدام في الثامن من ذلك الشهر. كيف كانت بداية اللقاء؟ - قلت له أنا أتذكر دورك في اتفاق آذار 1970 وقد كان الاتفاق نصراً لشعب العراق، نصراً للعرب والكرد والقوى الديموقراطية والوطنية. كان انجازاً عظيماً. لكن ويا للأسف لم نستطع التوصل الى النتيجة المرجوة واستؤنف القتال وسيادتك تعرف ماذا حدث. حدقت في صدام حسين وأضفت: جئت اليك سابحاً في بحر من الدماء واللقاء معك أصعب من الاتفاق لكن مصلحة البلد والشعب العراقي دفعتني الى تجاوز هذه الجروح وازاحتها جانباً وأتيت. اذا كنتم استفدتم من تجاربكم فنحن استفدنا من تجاربنا، فلنوظف هذه الدروس في خدمة المستقبل. وقلت له أيضاً: أنتم استخدمتم كل ما لديكم من الامكانات للقضاء علي وعلى ما أمثل. ونحن استخدمنا ضدكم كل ما لدينا من الامكانات أيضاً ولهدف مشابه. ان الدرس الأول الذي وفرته هذه المأساة هو أن القتال لن يحل المشكلة. الحل السلمي هو الخيار الوحيد أمامنا فإذا كنتم استفدتم من تجاربكم كما استفدنا نحن من تجاربنا فلنحاول البحث عن حل. وأضفت قائلاً: بالنسبة إلي شخصياً لم يبق عندي ما هو أهم وأعز مما قدمته من أجل قضية الشعب الكردي، فإذا لم يكن هناك حل أرفع به رأسي أمام الشعب الكردي ويقتنع به هذا الشعب فلا مبرر لاضاعة الوقت. اذا كنتم على استعداد فنحن على استعداد وإذا لم تكونوا مستعدين فنحن نشكر لكم حسن الضيافة. بماذا رد صدام؟ - قال: لدى العرب أياً كان حجم المشاكل فحين يحصل لقاء ويعطون وعداً وتصبح المشاكل جوا البساط تحت البساط، وأشار بيده الى البساط في الغرفة. نحن سنضع كل هذه المشاكل جوا البساط لنفتح صفحة جديدة. نحن نرحب بمجيئكم. بعدها حصلت جولات من الحوار. توصلنا الى نقاط ولم نتوصل الى حل لنقاط أخرى. هل كنت تشير في كلامك الى اختفاء اشقائك وأقاربك؟ - كل كردي سقط من أجل القضية ترك جرحاً في نفسي. لا فارق بين من قضى في حلبجة ومن قضى من أقاربي. نحن كشعب دفعنا ثمناً باهظاً. حتى الآن هناك 180 ألف مفقود بفعل حملة الأنفال. بين هؤلاء ثمانية آلاف بارزاني، أي من عشيرتي وبينهم 37 من عائلتي المباشرة أي ثلاثة من اخوتي اضافة الى أبناء اخوتي وأبناء عمي. أين كان اخوتك؟ - كانوا في بغداد ولم يكن لهم دور سياسي. قتلوا في بغداد؟ - لا أعرف أين قتلوا. اعتقلوا في بغداد ثم اختفت آثارهم. لم نعرف مصيرهم. هل سألت صدام عنهم؟ - لم أسأل عن اخوتي. سألت عن الجميع. قلنا للسلطة في بغداد أننا نريد المفقودين. أنا اعتبر كل المفقودين أخوتي. من عيون محاورينا في الجانب الآخر بدا الاحراج واضحاً. تلقينا منهم الجواب الآتي: حين نتوصل الى اتفاق سيطلق الباقون من المفقودين. ومن لم يبق سنبحث في العلاج، أي بمعنى تعويض عائلاتهم. ألم تعرفوا بمقابر جماعية؟ - لا. هنا في كردستان عثرنا على بعض المقابر الجماعية. المعلومات التي حصلنا عليها من مصادر مختلفة أفادت ان فريقاً من المفقودين استخدم في تجارب لبعض الأسلحة الكيماوية. كما أفادت المعلومات ان معظم هؤلاء نقل الى صحراء عرعر ودفن في مقابر جماعية. ليست هناك معلومات أكيدة مئة في المئة وتفصيلية لكنني على ثقة بأنه لو كان هناك أحياء لأطلقوا. وهكذا فهمنا ان لا أمل بالعثور على أحياء. هل تعتقد بأن صدام حسين خدعك حين ذهبت لمحاورته في 1991؟ - انصافاً للحقيقة لا استطيع القول انه خدعني فهو لم يقدم في لقائنا أي وعد قاطع لأقول انه تنكر له لاحقاً. لكنني في الوقت نفسه كنت أتوقع منه استجابة أكبر، أي استجابة بحجم الخطوة التي خطوتها أنا على رغم كل ما لحق بشعبي وعائلتي. هل كانت ليلة اللقاء مع صدام صعبة بالنسبة اليك؟ - بعد عشرين عاماً من القتال المتواصل وتضحيات جسيمة بينها 180 ألف شخص من أبناء شعبنا ومن عشيرتي وأقاربي المباشرين لم يكن من السهل أن أذهب للقاء الرجل الأول في الدولة التي تتحمل مسؤولية ما حل بالأكراد. لو أردت الاستسلام للمشاعر الشخصية لما ذهبت، خصوصاً أن كثيرين كانوا يعارضون ذهابي ويستغربون مجرد تفكيري في خطوة من هذا النوع. حين يكون المرء في موقع مسؤولية يتحتم عليه أن يضغظ على نفسه لتجاوز المشاعر الشخصية والآلام الشخصية. وأي اتفاق كان يمكن أن نتوصل إليه كان أسهل عليّ من اللقاء نفسه. هل نصحك مستشاروك بعدم الذهاب؟ - نصحني كثيرون من الداخل والخارج. هناك من فكر في تنظيم تظاهرات بغرض قطع الطريق عليّ لمعارضتهم مجرد الفكرة. هل كانت الانتفاضة عفوية أم بدأتم بالتخطيط لها قبل فترة؟ - خططنا واتصلنا بالمسؤولين عن القوات. ولا اذيع سراً ان قلت إن هناك من الأكراد من كان يستشيرنا قبل تسلم السلاح من السلطة وكنا نشجعه. اتصلنا وأعطينا توجيهات وفق خطة عمل. لم نكن وحدنا، كانت هناك تنظيمات أخرى مثل الاتحاد الوطني الكردستاني والجبهة الكردستانية والحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي. كان التعاون جدياً بين كل هذه القوى. هل خططتم مع جلال طالباني لاطلاق الانتفاضة؟ - عندما حصل غزو الكويت، وبدا واضحاً أن الرد عليه سيكون كبيراً كان علينا أن نتحسب للتطورات للإفادة من أي فرصة، وحين جاءت تحركنا. هنا أريد أن أذكر أنه على رغم ما لحق بالأكراد في حملة الأنفال وغيرها لم يقتل جندي عراقي بعد استسلامه خلال الانتفاضة، على رغم أن عدد من استسلموا كان عشرات الآلاف. لم يقتل أي أسير. تقريباً كل قوات الفيلق الأول والثاني والخامس استسلم للكرد. الذين قتلوا من دوائر الأمن والاستخبارات في السليمانية واربيل ودهوك، قتلوا في الأيام الأولى بعدما قاوموا في مراكزهم. هل أثار صدام معك حين التقيتما عمليات القتل التي حدثت؟ - لم يثر ما حدث في كردستان. تحدث هو وعدد من مساعديه أيضاً عما سموه مجازر وقعت في الجنوب، وهي كانت سيئة لجهة الفعل ورد الفعل أيضاً. نحن لم نسمح بأخذ مسمار واحد من شركة النفط وهي منشأة وطنية. ولم نسمح بعمليات انتقام. قبل ذهابي للقاء صدام سلمنا في صلاح الدين أكثر من مئة وستين ضابطاً بينهم لواء ركن. هؤلاء شاركوا في الأنفال واحراق قرانا. *** لم يخف الشاب العائد زائراً إلى مسقط رأسه ارتياحه إلى التحسن في أحوال كردستان العراق. أعجبته التجربة الديموقراطية التي اطلقت نشاط الأحزاب السياسية ومعها حرية الصحافة. لكنه جاء زائراً وسيرجع بعد أيام إلى البلد الأوروبي الذي فرّ إليه أهله "هرباً من الظلم والاضطهاد". قال إن ما يطالب به أكراد العراق هو مجرد حقوق بديهية، لافتاً إلى "ظاهرة غريبة ومؤلمة هي أن أكثر من 20 مليون كردي يتوزعون على أربع دول وممنوع عليهم الحلم بدولة وممنوع عليهم المحافظة على لغتهم وتراثهم وتطلعاتهم". وأضاف ان ما يقلقه ليس الماضي بكل مآسيه، بل الخوف من المستقبل، إذ "لا شيء يشير إلى أن الظروف متوافرة لقيام مجتمعات ديموقراطية تقبل التعدد والتنوع وترسي قاعدة المساواة بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم وألوانهم". واعتبر ان "حل النزاع العربي - الإسرائيلي قد يكون أسهل من انهاء مأساة الأكراد. فكل شيء يشير إلى احتمال قيام دولة فلسطينية، في حين ان العالم يصر على نسيان حقوق الأكراد، لأنه ليس راغباً في زعزعة استقرار الدول التي يقيمون فيها، أو لأن هذه الدول قادرة على تقديم رشاوى تدفع العالم إلى اغماض عينيه". وانتقد الشاب بشدة أولئك الذين يحملون على الغرب قائلاً: "لا أحد يستطيع في المانيا أن يحرمك من حقوقك. تشارك في الانتخابات أسوة بالآخرين وتحتكم إلى القضاء مثلهم. صحيح أن لتلك الدول مصالح، لكن الصحيح أيضاً هو أن برلماناتها حقيقية وان الحاكم فيها ليس فوق القانون". سألته عن مستقبل العراق، فأجاب: "شروط قيام نظام ديموقراطي حقيقي ليست موجودة. النظام الديموقراطي الضعيف سيسمح لمختلف النزاعات بأن تطل برأسها. نزاعات قومية ومذهبية وتيارات متشددة وعنيفة. أما تكرار الديكتاتورية فلا يعني سوى تحديد المأساة". استوقفني كلام الشاب الذي سيحزم حقائبه مجدداً بعد أيام عائداً إلى البلد الثاني حاملاً معه حزمة من الأسئلة والمخاوف على مستقبل البلد الأول. غداً حلقة ثانية