Frederic Robert. La Nouvelle Gauche Americaine: Faits et Analyses. اليسار الاميركي الجديد: وقائع وتحليلات. L'Harmattan, Paris. 2002. 204 pages. في ما يتعلق بالتاريخ السياسي والأيديولوجي للولايات المتحدة الأميركية، ثمة سؤال كبير يطرح نفسه: لماذا لم تعرف هذه الأمة، على عراقة تجربتها الديموقراطية، وجوداً حقيقياً لليسار، لا مذهباً ولا تنظيماً؟ جواباً عن هذا السؤال قد تنبغي العودة الى الكسيس دي توكفيل 1805 - 1859، مؤلّف الدراسة الكلاسيكية عن "الديموقراطية في أميركا". ففي نظر هذا الرائد الكبير لعلم الاجتماع السياسي، ان ما يميز التجربة التاريخية للديموقراطية الاميركية، بالمقارنة مع ديموقراطيات اوروبا الغربية، هو ان مواطني الولاياتالمتحدة ما صاروا متساوين، بل هم وُلدوا متساوين. والحال ان الايديولوجيات اليسارية لا ترى النور الا حيث الافتقار الى المساواة. يصدق ذلك على الايديولوجيا البورجوازية في طورها اليساري، يوم كانت البورجوازية لا تزال طبقة صاعدة تطالب بحقها في المساواة، كطبقة ثالثة، مع طبقتي النبلاء وأحبار الكنيسة. كما يصدق على الايديولوجيا البروليتارية يوم كانت الطبقة العاملة، المعذبة في زمن رأسمالية القرن التاسع عشر "الوحشية"، لا تزال تقدم نموذجاً تاماً لطبقة مستَلبة الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها المواطن البورجوازي. فالغالبية الكبرى من المواطنين الاميركيين كانت تتألف من صغار الملاكين ممن لا تغريهم الافكار الثورية، ومن لا همّ لهم سوى الحفاظ على ملكيتهم والدفاع عن مصالهم. وحتى العمال الصناعيون الاميركيون ما كانوا، حتى مطلع القرن العشرين، يعانون من بؤس أقرانهم في اوروبا الغربية. فالرأسمالية الاميركية كانت زاهرة، ولم يكن البعد الاجتماعي غائباً عنها غيابه لدى الرأسمالية الاوروبية "الوحشية". على ان ذلك لم يمنع الولاياتالمتحدة من ان تعرف "خوفها الاحمر" الاول غداة الحرب العالمية الاولى. فقيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وهي الثورة التي "هزت العالم" على حد تعبير الشيوعي الاميركي الرائد جون ريد، هدد بنقل عدوى "الايديولوجيا الهدّامة" الى ما وراء الاطلسي. وبالفعل، فإن خروج الحزب الشيوعي الاميركي الى النشاط العلني في اعقاب ثورة اكتوبر الروسية مباشرة بدا وكأنه توكيد لقانون انتشار الافكار بالمثاقفة. على انه كان لا بد من انتظار ازمة 1929 الاقتصادية الكبرى حتى يتحول الحزب الشيوعي الاميركي من حزب "مستزرع" الى حزب "مستوطن"، وحتى تتدفق على مكاتبه طلبات الانتساب من قبل اعداد غفيرة من العمال الذين القت بهم الأزمة بين أحضان البطالة، كما من قبل المثقفين المحبطين الذين اكتشفوا للمرة الأولى مصداقية الاطروحات الماركسية عن الازمة الدائمة و"النهائية" للنظام الرأسمالي. هذا الطابع "المستورد" للايديولوجيا اليسارية الاميركية، بطبعتها الماركسية، جعلها أسيرة العلاقات "الخارجية" بين الولاياتالمتحدةوروسيا، ومتقلبةً صعوداً وهبوطاً مع تقلب صورة الاتحاد السوفياتي في الداخل الاميركي. فصعود الفاشية في المانيا وايطاليا واسبانيا، وموقف التصدي الذي اتخذه الاتحاد السوفياتي - ومعه سائر الاحزاب الشيوعية الاوروبية - من الثلاثي المعادي للديموقراطية، هتلر وموسوليني وفرانكو، أسهم في رفع مكانة الماركسية. لكن توقيع ستالين على حلفه مع هتلر في 23 آب اغسطس 1939، وقبل ايام معدودة من بدء اجتياح المانيا لاوروبا، انعكس سلباً على صورة الماركسية في الداخل الاميركي. ثم ما لبثت هذه الصورة ان تحسنت من جديد مع اجتياح الالمان لاراضي الاتحاد السوفياتي وتسجيل هذا الأخير بطولات في المقاومة العسكرية والشعبية أسبغت عليه، وعلى نظامه الاشتراكي، هالة القدوة التي ينبغي احتذاؤها، حتى اميركياً. لكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتحول الاتحاد السوفياتي بدوره الى دولة غازية ومحتلة في اوروبا الوسطى والشرقية ودخول العالم في طور "الحرب الباردة" بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، تعرّت الايديولوجيا اليسارية الاميركية من ورقة توتها المحلية، وتبدت للغالبية الساحقة من المواطنين الاميركيين وكأنها امتداد "تجسسي" للمخابرات السوفياتية. وقد ساعد على حصر اليسار الاميركي في هذه الخانة الضيقة عاملان: الازدهار الاقتصادي الكبير الذي عرفته الرأسمالية الاميركية غداة الحرب العالمية الثانية مما زاد في حصانة الطبقة العاملة الاميركية ضد الافكار الشيوعية، والقمع الايديولوجي الكبير ايضاً الذي مارسته المكارثية ضد جميع المثقفين المتهمين بالتعاطف مع الايديولوجيا اليسارية، بمن فيهم المثقفون الليبراليون انفسهم، بقدر ما ان كلمة "ليبرالية" ما عادت تعني الانتصار لتوسيع الحريات فحسب، بل كذلك المناداة بتدخل الدولة لصالح الفقراء والمستضعفين، على العكس من المفهوم الاميركي التقليدي لليبرالية بوصفها مذهب عدم تدخل الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. هذا التضافر ما بين الازدهار الاقتصادي والقمع الايديولوجي رمى بالايديولوجيا اليسارية الى هامش الهامش، فتقلص عدد اعضاء الحزب الشيوعي الاميركي من 75000 عام 1945 الى 3000 عام 1958، في الوقت الذي توقفت منشوراته عن الصدور، بسبب انعدام القراء، ولا سيما "الديلي وركر" العامل اليومية، الصحيفة الرسمية الناطقة بلسانه منذ 1924. ويبدو ان هذا اليسار الاميركي القديم، الذي رأى النور بالمثاقفة مع ثورة اكتوبر، كان لا بد ان يختفي من مسرح التاريخ في آخر الخمسينات ليخلي مكانه، ابتداء من مطلع السينات، لما سيعرف باسم "اليسار الاميركي الجديد"، وهو يسار اكثر تأصلاً بكثير من سابقه في التربة القومية الاميركية. وقد كانت قاعدة الانطلاق الاولى لهذا اليسار الجديد لا من المصانع ولا من النقابات، بل من الجامعات، وفي مقدمتها جامعة بركلي، وبقيادة مثقفين وجامعيين من امثال بول غودمان وهربرت مركوز وتشارلز رايت ميلز، الاستاذ في جامعة كولومبيا، الذي تولى مع عدد من طلبة قسم التاريخ بجامعة بركلي اصدار مجلة متخصصة في نقد المجتمع الاميركي وسلطة النخبة الاميركية تحت عنوان "دراسات من اليسار". وكان محور المقالات التي نشرت في هذه المجلة ان الصراع الطبقي هو قانون عام للمجتمعات البشرية، لكن المجتمع الاميركي في مطلع الستينات هو غير المجتمع الروسي في زمن القيصرية، والطبقة العاملة القديمة قد أخلت مكانها لطبقة عاملة جديدة تتمثل بالتقنيين وذوي الياقات البيض من مدرسين وطلاب وسكرتاريين، وهؤلاء جميعاً يخضعون لنفس الاضطهاد الذي تخضع له البروليتاريا في التصور الماركسي التقليدي، ولكن رأس حربة ثورتهم يجب ان تكون موجهة لا نحو الاستغلال المادي، بل نحو الاستلاب الفكري. هذا اليسار الجديد كان يمكن ان يبقى أسير الحرم الجامعي لولا ان الحرب الفيتنامية التي تعاظم التورط الاميركي فيها، اتاحت له الفرصة التاريخية للنزول الى الشارع ولتشكيل قوة ضغط حقيقية على البيت الابيض والبنتاغون معاً. فقد كانت تظاهرات الاحتجاجيين على الحرب الفيتنامية تتحول كل يوم شاغلا للبيت الابيض وكان الرئيس في حينه ليندون جونسون بيافطات تحمل هذا السؤال: "كم من الشباب تريد ان تقتل اليوم؟"، كما ان تظاهرات الحصار لمبنى وزارة الدفاع بلغت اوجها يوم 17 آذار مارس 1965 عندما لبى اكثر من ثلاثين الف شخص - واكثرهم من الطلاب - نداء جمعية "الطلبة من اجل مجتمع ديموقراطي"، وهي أقوى منظمات اليسار الجديد في حينه للزحف على البنتاغون احتجاجاً على "الحرب القذرة". والواقع انه باستثناء الظرف الاستثنائي الذي مثلته حرب فيتنام، فإن القوة النسبية لليسار الاميركي الجديد كانت تعود الى "انفلاش" برنامجه الايديولوجي وتعدد الجماعات الفئوية التي تنضوي تحت لوائه. وفي مقدمة هذه الجماعات انصار الحقوق المدنية للسود، ونصيرات الحركة النسوية، وانصار حقوق الجنسيين المثليين، واخيراً انصار البيئة. والحال ان جميع هذه الفئات تتمتع بصلابة اجتماعية لا تتمتع بها طبقة الطلاب الهلامية والمؤقتة في تركيبها الاجتماعي. فضلاً عن احتكار تلك الجماعات للغالبية العددية المطلقة: فالسود يؤلفون 12 في المئة من المجتمع الاميركي، والنساء يفترض بهن ان يمثلن نصف المجتمع، بل ان الجنسيين المثليين انفسهم، الذين يحتلون موقفهم في عداد "الاقليات الايروسية"، يمثلون 10 في المئة من اصوات الناخبين الاميركيين. وقد انفرط عقد "اليسار الجديد" حالما استقلت هذه الجماعات بنفسها بعد ان اكتشفت ان مطالبها الخصوصية لا تجد تلبيتها تحت يافطة اليسار. بل ان اهم الانتقادات التي وجهت الى الايديولوجيا اليسارية كانت تلك التي صدرت عن حلفاء الأمس، من سود ونسويين وجنسيين مثليين وبيئويين، ممن اكتشفوا ان السياسة، حتى لو كانت يسارية، ليس من شأنها الا ان تحجب الطابع الشخصي او الخصوصي لاحتجاجهم. وهكذا ف"قوس قزح" اليسار الجديد لم يتألّق في السماء الاميركية الا لسنوات عشر محدودة. وابتداء من السبعينات كان جيل اليسار الجديد قد خرج، كالقديم، من مسرح التاريخ. ومنذ ذلك الحين عاد الاستثناء الاميركي يفرض نفسه على كل الدارسين والمحللين للتجربة التاريخية للولايات المتحدة: فباستثناء فصلين عارضين في الاربعينات والستينات من القرن العشرين، فإن اكثر ما يميز الأمة الاميركية عن سائر أمم الحداثة السياسية هو انها أمة غير مفرزة لليسار.