«طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    فعل لا رد فعل    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاكمة القرن . إدارة فاشلة للمجتمع وجذور عنف مشتركة بين النازية والشيوعية 3 من 3
نشر في الحياة يوم 13 - 10 - 2000

لعل الأكثر خطورة في اتهامات جان فرانسوا ريفل، ليس فقط في التشابه بين جرائم النازية وجرائم الشيوعية، وانما في جذورهما المشتركة وفي التقارب بينهما، الأمر الذي يسقط كل ادعاء للشيوعية أنها العدو والخصم الأصيل للفاشية والنازية. وكان الرأي العام وجمهور المثقفين قد ذهل في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية عندما سمع العالم أن الاتحاد السوفياتي قد عقد مع المانيا النازية معاهدة صداقة وعدم اعتداء 1938. فقد واجه جمهور المثقفين آنذاك أزمة ضمير قاسية. فالمانيا النازية كانت تمثل في ذلك الوقت أسوأ صور الفاشية اليمينية التي تهدد الحركات الثورية اليسارية. فقد ظل الاتحاد السوفياتي - وعلى رغم تحفظات الجناح التروتسكي وبعض اليساريين - في نظر المثقفين كسباً ضخماً للحركات الثورية ومرشداً لها. ولذلك فقد كانت معاهدة 1938 بمثابة صدمة، لأنها كشفت عن عقل الدولة Raison d'Etat وبصرف النظر عن الاعتبارات أو القيم المذهبية. ومن هنا فقط أصدر الأميركي الماركسي برنهام كتابه عن "ثورة المديرين" The Managerial Revolution حيث حاول تفسير ما حدث وفقاً للمنطق الماركسي. فقد رأى برنهام أنه اذا كان الصراع الطبقي هو الذي يفسر التاريخ، فليس معنى ذلك ان الطبقة المغلوبة والثائرة هي التي تفيد دائماً في الصراع. ففي ظل النظام الاقطاعي كان الصراع دائراً بين الاقطاع والفلاحين. وهذا الصراع لم يحل لمصلحة الفلاحين وانما لمصلحة البورجوازية. وبناء على ذلك فقد وجد برنهام مخرجاً في نظره، للتناقض الشديد في تحالف دولة يسارية مثل الاتحاد السوفياتي ودولة فاشية مثل المانيا النازية. فعنده انه في كل من الدولتين سيطرت طبقة المديرين على الحكم بعد الصراع بين البورجوازية والعمال. وانه من السهل التقاء المديرين السوفيات مع الألمان. ولكن ريفل يريد - هنا - ان يذهب خطوة ابعد مؤكداً ان الجذور الفكرية للشيوعية - الماركسية - تتقارب في كثير من الأحيان من حيث شمولية الحكم مع النازية. فيقتبس ريفل من دراسة لجورج واطسون George Watson, La Litterature oubliژe du Socialisme, Nil Edition, Paris, 1999 حيث يقول هذا الأخير: "ان الإبادة Genocide هي نظرية خاصة بالاشتراكية". فعندما قامت النمسا بإبادة عدد من أبناء المجر الذين ثاروا في وجه النمسا عام 1849، فإن فردريك انجلز نشر في مجلة Neue Rheinische Zeitung - والتي يديرها صديقه كارل ماركس - مقالاً يؤيد فيها ليس فقط إبادة المجريين بل أيضاً سكان الصرب والشعوب السلافية والباسك وسكان بريتاني والاسكتلنديين. وكارل ماركس نشر بدوره في المجلة نفسها عام 1852 عن "الثورة والثورة المضادة في ألمانيا"، متسائلاً: "متى يمكن التخلص مع هذه الشعوب الوضيعة في بوهيميا؟..." الاستعراض الكبير ص. 111 ويعدد ريفل الاشارات في هذا المعنى والتي تتضمن - بوجه خاص - نظرة عنصرية لماركس ضد الجنس السلافي. ولا يكتفي ريفل بمقاربة الماركسية بالنازية في بعض المقولات، ولكنه يذهب الى القول إن هتلر والنازية هي نوع من الاشتراكية. فلا ننسى ان تعبير "النازي Nazi" هو اختصار "للحزب الوطني الاشتراكي". ويؤكد الاقتصادي النمسوي فون ميزس Ludwig Von Mises أن البرنامج الاقتصادي للحزب النازي تضمن معظم نقاط البيان الشيوعي لكارل ماركس وانجلز. ويشير ريفل الى ان هتلر في حيث مع Otto Wagener يؤكد أن خلافه مع الشيوعيين "تكتيكي اكثر منه استراتيجي"". بل ان عداوة النازية لليهود يمكن ان تجد صدى لها في كتابات ماركس. فماركس عرف كراهية شديدة لليهود - ربما كرد فعل لتحول ابيه من اليهودية الى المسيحية - وقد أبرز في مقالة "عن المسألة اليهودية" 1843، عداءه ليس فقط لليهود، وانما ربط بينهم وبين الفردية والرأسمالية - والتي تمثل لديه مصدر الشر. وربما يكون هتلر قد تأثر بهذه الكتابات لماركس ضد اليهود. فعند ماركس ان "لليهود عقيدة علمانية، هي التجارة، واله هو النقود" ولذلك فإنه في ظل الشيوعية وحيث تختفي التجارة فإن حياة اليهود تصبح مستحيلة. وفي جميع الأحوال، فإنه ينبغي التذكر أن النظام الستاليني لم يكن مبرأ من التمييز ضد اليهود. ويرى غارودي - وهو شيوعي سابق خرج على الحزب وتنكر له - في كتاب سبب له مشكلات هائلة في فرنسا Roger Garoudy, Les Mythes Fondateurs de la Politique Israelienne, Samiszdat, 1996. أن جرائم النازي ضد اليهود بولغ فيها من الحلفاء كل لمصلحته، الأميركيون لتغطية ضحايا القنابل الذرية، وستالين للتهوين من شأن جرائمه.
"فالنظام الشيوعي" ليس مجرد تنظيم اقتصادي مختلف عن نظام السوق أو النظام الرأسمالي، وانما هو نظام للحكم الشمولي يتناقض مع النظم الليبرالية والديموقراطية. وكنظام للحكم الشمولي فإنه لا يختلف في طبيعته عن النظم الشمولية الفاشية أو النازية، بل ربما يكون أشد وطأة حيث أن الدولة - ممثلة في الفئة المتميزة من رجال الحزب - وتضع تحت سلطتها الموارد الاقتصادية كافة تصبح أشد تحكماً وتسلطاً وخصوصاً مع ما تملكه من أدوات للحكم البوليسي. فإذا كانت اليوتوبيا الاشتراكية تتطلع "حكم القانون بلا دولة"، فإذا بها مع النظام الشيوعي تصبح "دولة بلا قانون". "فالنظام الشيوعي" عند ريفل هو نظام شمولي مناقض لليبرالية لا يختلف في ذلك عن النظام الفاشي أو النازي بل لعله أشد قسوة ونكداً على حقوق الإنسان.
وإذا كان ريفل يحاكم "النظام الشيوعي" بعد سقوطه في عام 2000، فقد سبقته محاولات أرادت كشف الطابع الشمولي للحكم في النظام الشيوعي. ولعل من أهم المحاولات في هذا الصدد هي كتابات هايك عند نهاية الحرب العالمية عن "الطريق الى العبودية" Hayek, The Road to Serfdom, University of Chicago Press, 1944 وكارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه K. Poper, The Open Society and its Enemies, Reutldge & Kegan Paul Ltd., London 1945. وهما نمسويان هاجرا الى انكلترا في الثلاثينات وقاما بالتدريس في مدرسة الاقتصاد في جامعة لندن.
ويعتبر هايك من أوائل المفكرين المعاصرين الذين ناقشوا قضية النظم الشمولية، وأدخل تحت هذا الاصطلاح كلا من النظم الفاشية والنازية والماركسية من دون تمييز. وكان هناك تقليد في السابق يميز بين الفاشية والنازية من ناحية والماركسية من ناحية أخرى، فالأولى مذاهب يمينية متطرفة في حين ان الثانية يسارية، ومن هنا جاء العداء بينهما. وقد أوضح هايك انه لا خلاف في طبيعة هذه النظم من حيث انها كلها نظم شمولية تسيطر فيها السياسة والسلطة على مقدرات المجتمعات، ويتضاءل، أو حتى يتلاشى، فيها دور الفرد والمجتمع المدني. ف"ستالين"، كما يقول ماكس إيستمان احد أصدقاء لينين، "ليس افضل من الفاشيست" بل انه "سوبر فاشست"، هناك أيضاً فاشية حمراء. فالمقارنة والمقابلة هي بين النظم الليبرالية من ناحية والنظم الشمولية من ناحية اخرى وسواء صنفت هذه الأخيرة بين اليمين أو اليسار.
وقد استقر هذا المفهوم بعد ذلك في الفكر السياسي لدى العديد من المفكرين من أمثال ريمون آرون المفكر الفرنسي والذي واجه مساراً مشابهاً لهايك. على رغم مناهضته - هو أيضاً - للفاشية والنازية فقد أدت معارضته للماركسية من ناحية ولجان بول سارتر من ناحية اخرى، الى اعتباره - حيناً من الزمن - من المحافظين بل والرجعيين، وذلك حتى تم الاعتراف به في نهاية حياته - ومن اليساريين الجدد أنفسهم في فرنسا - باعتباره من الليبراليين التقدميين، والذين يدافعون عن قيم الحرية والتقدم في مواجهة الرجعية والشمولية سواء بسواء.
ويبدأ هايك في التعريف بالنظم الشمولية أنها تستند جميعاً وبلا استثناء الى نوع من البحث عن اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة. وقد ربط بين محاولة تحقيق هذه المدينة الفاضلة وبين فكرة تنظيم المجتمع، أو ما عرف بعد ذلك باسم الهندسة الاجتماعية وهي الفكرة التي تناولها بعد ذلك أو في الوقت نفسه تقريباً، الفيلسوف كارل بوبر صديق هايك والذي ساعده على الانضمام هو الآخر الى جامعة لندن. وقد أوضح كارل بوبر في كتابه عن "المجتمع المفتوح وأعدائه" كيف ان محاولات اخضاع تطور المجتمعات لتصور مسبق - وكما يفعل المهندس حينما يقوم بتصميم آلة - لا تؤدي إلا تشوهات اجتماعية لا شأن لها بالنموذج النظري الذي يبدأ به المنظر أو المفكر. فالمجتمعات ليست مواد صماء يتم تشكيلها وتصنيفها وفقاً لإرادة حاكم أو مفكر، وانما الجماعات كائن متطور بقوى ذاتية. وقد عمد هايك في كتاباته اللاحقة وخصوصاً في كتابه الأخير "الغرور القاتل" The fatal conceit الى مناقشة هذه القضية عن تطور المجتمعات. فأهم النظم الاجتماعية المعروفة لم تنشأ نتيجة تصور عقلي محض كما لم تكن استجابة غريزية للحاجات الأولية للأفراد، وانما نشأت - في الغالب - نتيجة للخبرة التاريخية المتراكمة التي أثبتت نجاحها وفاعليتها، بل ان العقل ذاته لا ينبغي ان يؤخذ كمعطاء بقدر ما هو نتيجة للتطور الثقافي والحضاري. ومن هنا تتضح أهمية دور التطور وتراكم الخبرات والتجارب في نشأة النظم الاجتماعية. فاللغة مثلاً لم تنشأ نتيجة فكرة عبقرية ولدت في ذهن عالم أو مفكر، وانما هي نشأت وتطورت نتيجة حاجات الأفراد في الاتصال والتفاهم. وقل مثل ذلك عن فكرة السوق أو النقود أو الأوراق التجارية وغيرها من القوانين المستقرة في المعاملات الشخصية والمالية. ولعله من الضروري هنا التأكيد على ان هايك يرى ان أهمية نظام السوق وحيويته انما ترجعان الى انه نظام ولد من خلال التطور التاريخي ولم يكن وليد نظرية أو تصميم هندسة اجتماعية. وهكذا نجد ان هايك على رغم انه يعترف بأهمية العقل ودوره الا انه يحذر من المبالغة في تقديس العقل والاستسلام الكامل لدعوات العقل البشري، وهو عادة عقل فرد الزعيم أو الرئيس، لتحقيق الاصلاحات الاجتماعية كافة. بل عادة ما يؤدي الى مسخ بشري مشوه. ولذلك يصدِّر هايك احد فصول كتابه "الطريق الى العبودية" بعبارة لأحد الكتاب حيث يقول انه "عندما تبدو الدولة كجحيم، فإن ذلك يكون عادة نتيجة محاولة الأفراد اقامة الجنة على الأرض". فكم من الجرائم ارتكب باسم القيم المثالية أو العقل! ولا ينبغي ان يفهم من ذلك - بطبيعة الأحوال - ان هايك يأخذ موقفاً معارضاً من العقل أو العلم، فكل جهوده وأبحاثه انما هي انصياع للعقل والعلم واضافة لهما. ولكن هايك يحذر من المبالغة، ويرصد حدود العقل والعلم في فهم الأحداث أو دفع التطور.
ومع الرغبة في تصميم وخلق المجتمع الجديد، فإن النظم الشمولية تسعى جميعاً لادارة المجتمع بشكل شامل، وهو ما يطلق عليه عادة التخطيط الشامل والمركزي. ويلاحظ ان اصطلاح التخطيط كثيراً ما يكون مضللاً. فلا شك ان اهم ما يميز الانسان هو القدرة على التخطيط والاعداد للمستقبل. وهنا تظهر أهمية الحساب الاقتصادي كضرورة وخصوصاً في المجتمعات الحديثة. فالجميع مطالب بالتخطيط والإعداد والتدبير. بل ان نظم السوق نفسها تحتاج الى تدخل من الدولة بناء على تخطيط للحاجات الأساسية التي يعجز السوق عن توفيرها. وبذلك يصبح التخطيط وتدخل الدولة هو الآخر مكملاً للسوق وليس بديلاً عنه.
لكن مفهوم التخطيط المركزي يمكن ان يجاوز ذلك المعنى، حينما لا تقتصر الدولة على وضع الإطار المناسب للجميع للقيام بالحساب الاقتصادي، بل انها - أي السلطة المركزية - تحل محلهم في ادارة المجتمع، وتشكيل الحياة الاجتماعية في شكل كامل. فالتخطيط هنا يستبعد السوق ويحل محلها. ومع تلك الادارة الشاملة والمركزية للمجتمع واتخاذ قيام السلطة القرارات التنفيذية في كل ما يتعلق بمختلف أوجه النشاط، ينفتح الباب للتحكم والبعد عن فكرة دولة القانون، أو بعبارة اخرى فإننا نكون بصدد ما يمكن ان نطلق عليه اقتصاد الأوامر في المقابلة باقتصاد القواعد. وتلعب فكرة القواعد أو دولة القانون دوراً محورياً في تصور هايك عن المجتمع الحر. وعندما يتحدث هايك عن دولة القانون فإنه يقصد ان تكون جميع افعال الحكومة محددة وفقاً لقواعد عامة معروفة مسبقاً، بما لا يترك مجالاً للتحكم أو المفاجأة أمام أفعال الحكومة. وقد عنى هايك وخصوصاً في مؤلفاته اللاحقة بتعميق وشرح معنى حكم القانون أو حكم القواعد العامة لنشاط الحكومة، وأوضح كيف ان توسع الدولة في التخطيط المركزي يبعدها، بالضرورة، عن فكرة دولة القانون لتصبح دولة أوامر. وبالمثل فإن التوسع في دور الدولة والتخطيط المركزي لا بد وأن يتناقض مع اعتبارات الديموقراطية. ويمكن الاشارة هنا الى اعتبارين: الأول انه اذا كان من السهل ان يتحقق الاتفاق العام حول عدد قليل من الأمور الأساسية في تدخل الدولة، فإنه يصعب تحقيق مثل هذا الاتفاق العام كلما امتد نشاط الدولة الى ميادين جديدة تؤدي بالضرورة الى ظهور آراء ومصالح متعارضة. ولذلك فإن مزيداً من التوسع في التخطيط المركزي يعني الدخول في ميادين جديدة يختفي فيها الاتفاق العام وتتزايد الآراء والمصالح المتعارضة. أما الاعتبار الثاني لتعارض التخطيط مع الديموقراطية فإنه يرجع الى ان التوسع في مدى التخطيط المركزي يتطلب مزيداً من الاعتماد على الفنيين، الاخصائيين. ومن الطبيعي ألا تتوقف خيارات هؤلاء على الاعتبارات الفنية وحدها بل تتوقف ايضاً على تفضيلاتهم الشخصية وهي لا تتفق بالضرورة مع رغبات الغالبية. وهكذا يؤكد هايك ان السيطرة الاقتصادية لا بد وأن تنتهي الى نوع من النظم الشمولية. ويتعرض هايك الى نوعية الحكام والمسؤولين في النظم الشمولية، ويعتقد ان طبيعة هذه النظم ذاتها - وليست الصدفة - تستبعد عادة أفضل العناصر، وكثيراً ما تستند الى العناصر الانتهازية والأدنى ثقافة. وفي احد الفصول في واحد من مؤلفاته يناقش هايك "نهاية الحقيقية" في ظل النظم الشمولية والتي تضطر الى تعبئة الرأي العام وراء خططها وقراراتها من دون كثير الاعتبار للحقيقة ذاتها: "فالمصلحة العامة" - هكذا يعتقد المسؤولون - تبرر كل شيء. وهي القضية التي تناولها جورج أورويل في كتابه الشهير "1984" حين عرض لنا وصفه "لوزارة الحقيقة"، وهي، في الحقيقة، "وزارة الكذب".
استخلاص آراء ريفل أو هايك او بوبر في "النظام الشيوعي" قد لا يكون منصفاً. فأي منهم لم يحمل في أي وقت من الأوقات أي تعاطف مع الشيوعية مما خول لليسار نعتهم باليمين وأحياناً أقصى اليمين. وبالتالي فإن استكمال الصورة برأي من اليسار قد يكون مناسباً. وفي كتاب حديث نشره المؤرخ البريطاني هوبزبوم من مقابلة مع صحافي ايطالي بعنوان "على حافة قرن جديد" Eric Hobsbaum, On the Edge of the New Century, The New press, New York,2000 يتناول هذا المؤرخ البريطاني - وقد جاوز الثمانين من عمره - خلاصة تجربته من دراسة تاريخ العالم. وهوبزبوم يهودي من أصل ألماني ولد في الاسكندرية 1917 ودرس في المانيا والنمسا وانكلترا. وهاجر الى انكلترا حيث اصبح استاذاً للتاريخ في جامعة لندن، وكان من أعمدة الفكر الماركسي في الجامعات البريطانية.
فماذا يقول هوبزبوم في مؤلفه الأخير عن اليسار والاشتراكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية: "مع حكمة التجربة، يمكن القول إن الاشتراكية كانت حلماً طوباوياً أو مجرد شعارات للتهييج. فمنذ قيام الثورة الروسية لم يفكر احد كيف يدار المجتمع بعد نجاح الثورة، ولم تكن هناك مناقشة جادة حول كيفية ادارة الاقتصاد... فالنظرية الاشتراكية كانت نقداً للمجتمع الرأسمالي بأكثر مما كانت مشروعاً لبناء مجتمع جديد..."، و"يمكن القول إن فشل هذا المشروع اصبح واضحاً منذ الستينات وخصوصاً منذ السبعينات..."، "انه لمما يدعو للأسف ان اصبح الشخص الوحيد الذي يدين الرأسمالية في شكل عام هو، بابا روما". ويمكن ان يندرج في هذا السياق ردود الفعل من الأحزاب الشيوعية الأوروبية في أثر اذاعة تقرير خروتشوف للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي 1956. وكان أول الأصداء وأشدها أثراً ما ورد في المذكرة التي نشرها تولياتي زعيم الحزب الشيوعي الايطالي وهو أكبر الأحزاب الشيوعية الأوروبية آنذاك خارج المنظومة الاشتراكية واعتبر فيها ان الاخطاء والجرائم والممارسات المنكرة للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي بمثابة خلل عضوي في النظام الشيوعي ولا يمكن ردها فقط الى مجرد ممارسات فرد ستالين.
هذه بعض الآراء في "النظام الشيوعي" كما عرفه القرن العشرون. وهي ليست الآراء الوحيدة، فهناك بالضرورة آراء أخرى مخالفة. والتاريخ حمال أوجه. وليس هناك حكم نهائي. والله أعلم!
* الأمين العام للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا الأسكوا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.