كانت القطة تقف حائرة في الشارع. يبدو أنها تريد عبور الشارع ولكنها ظلت مترددة أمام السيارات التي تعبره. اخيراً قفزت قفزتين رشيقتين وصلت بهما الى الضفة الأخرى من الشارع، وهناك دخلت تحت سيارتي ولم تخرج. كانت الدنيا شديدة الحرارة، وكان الظل الوحيد الموجود في الشارع بعد الاشجار القليلة هو ظل السيارات الواقفة. تساءلت بيني وبين نفسي: - لماذا اختارت القطة سيارتي لترقد تحتها؟ هل يعود هذا لما لقيته من أصحاب السيارات الأخرى. لقد كانوا يطردونها ويهشونها حتى تبتعد عن سيارتهم، ولم أكن أعرف لماذا؟ ما هو الضرر الذي تسببه قطة تنام تحت سيارة واقفة؟ لا أريد أن أطيل في الحديث. غاية القول ان شيئاً يشبه الصداقة ربط بيني وبين القطة. وترتب على هذه الصداقة ان انتقلت القطة من النوم تحت السيارة الى النوم فوقها، ثم صارت تدخل الى السيارة حين افتح بابها. ثم تقدمت القطة خطوات وصارت تصحبني حين انزل من السيارة حتى باب شقتي. وبصفتي عربياً ورث الجود عن آبائه الكرماء سمحت لها بدخول شقتي، حيث انضمت الى الاسرة او فرضت نفسها على الاسرة اذا اردنا الدقة. كانت القطة من نوع البروليتاريا الكادح الذي تربى في الشارع ولاحظت انها تمتاز بالطفاسة والدناوة. كانت لا تشبع مهما أكلت، وكانت تمارس وهي تأكل طقوساً عجيبة وتصدر اصواتاً تهديدية بفمها، والويل كل الويل لمن يقترب منها وهي تأكل فكانت تزوم لي كأنها تقول: - نحن اصدقاء لكن لا تقرب مني وأنا آكل.. هنا لا صداقة ولا معرفة ولا حب. ومرت الأيام، واكتشفت ان القطة حامل، ولا حظت ان شراستها تفسح الطريق لحنان غريب. صارت تتمسح في اهل البيت كلهم كأنما لتكسب انصاراً لأولادها قبل ولادتهم، وكانت تعامل باللطف من كانت تبخ في وجهه قبل ذلك ولكنها ظلت على عادتها السيئة في الاكل، ظلت تزوم اذا اكلت وظل الاقتراب منها وهي تأكل مغامرة غير مأمونة العواقب. ثم ولدت هذه القطة. انجبت خمس قطط صغيرة .. اخيراً أصبحت أماً. وتغيرت شخصيتها تغيراً ملحوظاً. كانت ترضع ابناءها معظم الوقت، وكانت تأكل في شكل طبيعي فلا تزوم ولا تتكالب على الأكل. صحيح أن شهيتها انفتحت بعد الولادة، فقد كانت ترضع خمس قطيطات صغيرة، ثم كبر الأولاد وفطمتهم وبدأوا يأكلون معها ولاحظت امراً عجيباً. كان أولادها يأكلون طعامها وهي تنظر اليهم بسعادة راضية، وتذكرت سلوكها قبل أن تلد. لشد ما تغيرت الصورة. أين ذهبت شراستها القديمة؟ كيف ضاعت وحشيتها؟ اين ذهبت دناوتها وطفاستها؟ لقد تلاشى هذا كله... غرق في حنان الأمومة. انتهى الأمر وصارت القطة أماً، وأصبحت تفضل أولادها على نفسها في أمر حيوي يتصل بالحياة، وهو الطعام. وأدهشتني هذه المعجزة، معجزة الامومة التي تضحي بنفسها من أجل ابنائها. يقولون إن الامومة هي مصدر الرحمة والحنو في الدنيا، ويبقى هنا سؤال: من الذي علّم القطة الأم هذا الحنو؟ من الذي وضع في قلبها كل هذه الرحمة؟ ورد في الحديث النبوي الشريف أن الله تعالى خلق الرحمة مئة جزء وجعل في الأرض جزءاً واحداً، فمن هذا الجزء تتراحم الخلائق حتى لترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه. اذا كان حنان الام ورحمتها جزءاً يسيراً من مئة جزء خلقها الله، فما هي حدود الرحمة الإلهية. أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أم تهدهد طفلها وسأل صحابته: أتظنون ان هذه الأم يمكن أن تطرح ولدها في النار قالوا: لا .. قال: فإن الله أرحم بعباده من هذه الأم بابنها. أحمد بهجت