حين أطلق قاسم أمين مسمّى "المرأة الجديدة" عنوانا لكتابه الثاني الذي صدر سنة 1900، بعد عام واحد من صدور كتابه "تحرير المرأة"، كان المسمى الجديد يشير إلى ميلاد امرأة جديدة بالفعل، سواء على أرض مصر التي أصدر فيها قاسم أمين كتابه، أو على امتداد الوطن العربي الذي ينتسب قاسم أمين إلى ثقافته. هذه "المرأة الجديدة" كانت حلم وهدف رواد ورائدات لم يكفّوا عن العمل منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وقد تتابعت جهودهم إلى أن ظهرت إرهاصات هذه "المرأة الجديدة" مع نهاية القرن التاسع عشر، خصوصا بعد أن برزت المرأة الكاتبة، وفرضت حضورها على المجتمع، وتحولت إلى كيان فاعل مؤثر، سواء بكتاباتها التي ظهرت في شكل إبداعات أدبية، أو شكل كتابات فكرية انتقادية، تدعو إلى إصلاح أوضاع المرأة العربية، وتحريرها من القيود التي كانت تقيد حركتها. وقد وجد هذا الحضور النسائي ما يمنحه قوة التأثير والانتشار بواسطة الصحافة النسائية التي كانت إعلانا عن المزيد من فاعلية المرأة الجديدة ثقافيا. وكانت البداية حين أصدرت هند نوفل مجلة "الفتاة" في مدينة الإسكندرية سنة 1892، وأصدرت نظيمة الصابوني مجلتها الشهرية "المرأة" في مدينة حلب سنة 1893، أي قبل سبع سنوات من صدور كتاب قاسم أمين عن "المرأة الجديدة". ولذلك لم يكن تنظير قاسم أمين للمرأة الجديدة، في كتابيه، سوى حلقة من سلسلة سبقته إليها المرأة العربية التي نهضت لتأكيد حضورها على امتداد النصف الثانى من القرن التاسع عشر، كما كان هذا التنظير تجسيدا للحضور الفعلي لهذه المرأة التي أخذت تخاطب طوائف المجتمع المؤيدة لها والمعارضة على السواء، بواسطة الكتاب والمجلة والصحيفة، وبواسطة مؤسسات التعليم التي أخذت في تخريج أجيال جديدة من المرأة الجديدة التي أنضجتها الممارسة الثقافية، وصقلتها المبادرة الاجتماعية، وفتحت أمامها الآفاقَ الواعدةَ المشاركةُ السياسيةُ في الثورات الوطنية والقومية التي بدأت بثورة 1919، ولم تنته بانتفاضة القدس التي لا تزال متقدة بمشاعر الغضب القومي. هذه "المرأة الجديدة" حققت الكثير من المنجزات، وحصلت على الكثير من الحقوق على امتداد تاريخها النضالي، في العديد من المجالات، وعلى رأسها المجال الثقافي الذي كانت إسهامات المرأة فيه تمهيداً لإسهاماتها في بقية المجالات وتأكيداً لها. ولا بد من ملاحظة التراكم الإيجابي الذي حققته الأجيال المتتابعة من المرأة العربية الجديدة التي انتزعت مكانتها، وفرضت وجودها، وحصلت من حقوقها على ما يدفعها إلى المطالبة بكل ما تبقى لها من حقوق، آملة في مستقبل أكثر عدلاً وحرية وتقدماً. ولكن، على رغم كل ما أنجزته هذه "المرأة الجديدة" ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، فإنها لا تزال تواجه تحديات عديدة، ولا تزال تعاني من مشكلات كثيرة، فالمسيرة لم تصل بعد إلى نهايتها، والنهاية نفسها مفتوحة بالوعود التي لا حد لإمكاناتها الإيجابية. ولا سبيل إلى تحقيق هذه الوعود إلا بالانطلاق من الإنجازات التي تحققت بالفعل، والتحرك منها بوصفها نقطة للابتداء وليس نقطة للانتهاء. والخطوة الأولى في ذلك هي المواجهة الجذرية للمشكلات والتحديات التي لا تزال تعرقل مسيرة المرأة العربية في تطلعها إلى وعود مستقبلها. وأتصور أن توصيف المشكلات الثقافية للمرأة العربية، اليوم، يستلزم البدء بمجموعة من الملاحظات الاستهلالية التي لها أهمية خاصة في هذا السياق. أولاً: لا يمكن فصل ثقافة المرأة عن ثقافة الرجل، ومن ثم ثقافة المجتمع ككل، كما أن مواجهة المشكلات الثقافية للمرأة لا تنفصل عن مواجهة بقية المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فكلها مشكلات تتبادل التأثر والتأثير في المجتمع. ولا تتناقض هذه الملاحظة مع حقيقة انفراد المرأة العربية بوضع خاص بها ثقافيا، وذلك بسبب غلبة الثقافة الذكورية السائدة التي تنحاز إلى الرجل أكثر من المرأة. ثانياً: لا يمكن فصل الأوضاع الثقافية في أي قطر عربي عن بقية الأقطار، فالعلاقة الثقافية بين الأقطار العربية علاقة متبادلة، لا يتوقف فيها أي طرف عن التأثير في غيره والتأثر به. وهي علاقة قائمة رغم التغير غير المتكافئ للأقطار العربية. أعني التغير الذي جعل المرأة في بعض الأقطار تسبق مثيلتها، أو تختلف عنها، في الأقطار الأخرى على مستوى الحقوق والواجبات. ثالثاً: لم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة عربية للمرأة بمعزل عن ثقافة العالم المعاصر، خصوصا بعد أن تداعت الحواجز بين الأقطار، وأصبحت العولمة بمعانيها الثقافية والاقتصادية واقعاً قائماً وتحدياً ملموساً. وهذا وضع يقترن بالمفارقة الثقافية التي أصبحت تعيشها المرأة العربية بدرجات متفاوتة في أقطارها المتعددة، خصوصا بعد أن أصبحت هذه المرأة تفيد من أقصى أشكال التحديث التي أنتجتها ثورة الاتصالات في العالم المتقدم، وذلك في الوقت الذي تعيش أقسى شروط التخلف، أو تعاني أصعب ألوان القمع الفكري. ومن المنظور الذي تؤكده الملاحظات السابقة، يمكن أن نتحدث عن أهم المشكلات الثقافية التي تعانيها المرأة العربية المعاصرة، وتحاول أن تواجهها، أملا في اقتحام مستقبل أكثر وعداً. أولاً: هذه المشكلات هي الميراث الثقافي التقليدي الجامد الذي لا يزال مهيمنا بنزعاته المتحجرة. وهو ميراث لا يزال ينظر إلى المرأة على أنها ناقصة عقل ودين، مستندا في ذلك إلى مرويات نقلية، وإلى تأويلات بشرية مغلوطة لنصوص دينية، وإلى نظرة متعصبة تبرر كل شيء على أساس من الماضي. ويضم هذا الميراث ما تواتر من أحكام وتصورات وعادات وممارسات لا تكف عن تحقير النساء وسوء الظن بهن والتقليل من شأنهن. ولا أريد أن أطيل في عرض مأثورات هذا الميراث، فهي أكثر من أن تحصى في الكتب التراثية التي شاعت في عصور الضعف، وهي لا تزال فاعلة في الوعي التقليدي الجمعي على أكثر من مستوى. ويكفي، في هذا المقام، الإشارة إلى الأقوال التي تضرب المثل بالمرأة في ضعف الرأي وانعدام الحكمة. ومن ذلك ما يوصف بأنه "رأي نساء" تحقيرا للرأي، وما جاء في الأمثال: "النساء شرّ كلهن"، "لا تثق بامرأة"، "من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه"، "ذل من أسند أمره إلى امرأة"، "من اقتراب الساعة طاعة النساء"، "إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن"، "لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال"، "اعص النساء وهواك وافعل ما شئت"، "هن عوادي يوسف"، "كرامة النساء دفنهن"، "إن المرأة تلقن الشر من المرأة كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة". وينسبون إلى الشيطان قوله: "سهمي الذي إذا رميت به لم أخطئ: النساء". هذا الميراث الثقافي الذي ينزل بالمرأة إلى أسفل الدرجات، كى يعلي من شأن الرجل، لا تزال آثاره موجودة إلى اليوم، في الوعى الجمعي للمجموعات التي يغلب عليها الاتباع الجامد والتقليد السلبي، وهي المجموعات التي لا تزال تستريب بوجود المرأة وحضورها، وترفض أن تمنحها مكانة مساوية لمكانة الرجل أو حتى قريبة منه. وهي مجموعات لها تأثيرها الذي يجاوز أفرادها إلى غيرهم أو غيرهن من أبناء المجتمع وبناته، خصوصا بعد أن لجأت هذه المجموعات في نشر أفكارها إلى وسائل اتصال جماهيري لها تأثيرها، سواء في النوادي الاجتماعية، أو الدروس المقدمة في المنازل، أو المساجد التي تسيطر عليها هذه المجموعات، أو المقررات الدراسية التي تسربت إليها بعض هذه الأفكار، أو بعض البرامج التلفزيونية التي تبث من الرسائل ما يعيد إنتاج هذه الأفكار. ولا غرابة، مع مثل هذا الميراث، أن يظل الوعي الجمعي للرجال حاملا بعض رواسبه، حتى عند الذين أكملوا تعليمهم العالي، ذلك التعليم الذي لم يقم بتصفية الوعي الجمعي لطلابه، تماما، من الرواسب التي تقف ضد تقدم المرأة، أو تسعى على المستوى اللاشعوري إلى رفض أى شكل من أشكال المساواة بينها والرجل. ثانياً: ما تعيد الثقافة السائدة إنتاجه من موروث اجتماعي ذكوري بطريركي. وهو موروث لا يزال يفرض التمييز بين الرجل والمرأة في المكانة الاجتماعية، وما يقترن بهذه المكانة من مجالات التراتب الوظيفي. وذلك وضع تدعمه أبنية التقاليد الاجتماعية التي تورثنا إياها الثقافة التقليدية السائدة، خصوصا حين تستبدل هذه الثقافة الزوج من حيث هو رجل بالحاكم المطلق، وتستبدل المرأة من حيث هي أنثى بالمحكوم الذي يطيع هذا الحاكم طاعة الإكبار والتصديق والاتباع والإذعان. أعني هذه الأبنية التي تستند إلى مأثورات قديمة، منها تلك الكلمة المأثورة المنسوبة إلى امرأة سعيد بن المسيب التي تقول فيها: "ما كنا نكلمّ أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم" والتي هي وجه آخر لما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من كلمات تقول: "يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن، لجعلتن المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها". ومن الطبيعي، والأمر كذلك، أن يستنكر الوعي الذكوري العام، ولو على المستوى اللاشعوري، ترقي المرأة ووصولها إلى أعلى المناصب، ولا يقبل فتح أبواب وظائف أو مناصب بعينها أمام النساء، وذلك جنباً إلى جنب القيود الاجتماعية المفروضة على إبداع المرأة ونتاجها الفكري في معظم البلدان العربية، وهي قيود نابعة من عادات ومفاهيم مترسخة، ينظر فيها إلى ممارسة المرأة للإبداع الأدبي أو الفكري باعتباره أمراً معيباً. ولذلك فإن نسبة المبدعات من النساء أو المشتغلات بالفكر أقل بكثير من نسبة الرجال، كما أن نسبة ما هو مباح للرجال في مجال الإبداع أو الفكر أكبر من نسبة ما هو مباح للمرأة، ولذلك فإن المسكوت عنه في الخطاب النسائي لأي مجتمع عربي أكثر بكثير من المسكوت عنه في خطاب الرجل. وأتصور أن هذا الموروث الذي تعيد الثقافة التقليدية السائدة إنتاجه على مستويات متعددة من الوعي الاجتماعي العام هو المسؤول بالدرجة الأولى عن تقلص الحضور السياسي للمرأة، وعن استمرار هذا التقلص في الانتخابات النيابية أو انتخابات المجالس المحلية أو غير ذلك من الانتخابات، فالوعي الاجتماعي العام لا يزال متأثراً بموروثاته السلبية، على مستوى اللاشعور الجمعي، ولا يزال نافراً من تقبل تمثيل المرأة الأدنى للرجل الأعلى أو رئاستها له في كل المجالات وعلى كل المستويات، اللهم إلا بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها.