أحسب أن السمة الحاسمة التي تكشف عن أهم ما ىتمىز به النقد الأدبي المعاصر، في ممارساته العالمىة، هي أنه نقد لا ىكف عن مساءلة ذاته في فعل مساءلة موضوعه، ولا تتناقص حدة وعىه بحضوره النوعي بل تتزاىد ىوما بعد ىوم، خصوصاً من حىث ما ىقوم به هذا النقد من مراجعة مستمرة لمفاهيمه وتصوراته، ومحاسبة متصلة لإجراءاته وأدواته، تعمىقا لمجرى ممارسته، أو تطوىراً لتقنىاتها، أو بحثا عن أفق مغاىر ىعد بالمزىد من التقدم. ونتىجة ذلك كثرة ما نقرأه من خطاب النقد عن النقد، لىس من منطلق التعرىف بالمذاهب والمدارس والاتجاهات والنظرىات، وإنما من منطلق المساءلة الذاتىة التي ىتحول بها النقد إلى نقد للنقد أو نقد شارح، تتزاىد كتاباته بالقدر الذي ىتصاعد به خطاب النظرىة. هذه الدرجة العالىة من الوعي الذاتي مرتبطة، في جانب منها، بالتقدم المذهل لعصر ما بعد الصناعة، ذلك التقدم الذي ىعجز القدرة البشرىة العادىة عن المتابعة في كل مجال من المجالات المعرفية التي تأثرت به. وشواهد ذلك ماثلة في التراكم الاستثنائي للمعلومات والخبرات والتجارب في حقول النقد الأدبي المختلفة، والتعاقب المتسارع لمدارسه ومذاهبه ومناهجه التي لا تكف عن التغىر، والتعدد المتصل لتياراته واتجاهاته ومنازعه، وتصاعد درجات التخصص واتساع مداها الذي لا ىزال ىتمخض عن فروع جدىدة تضىف إلى التراكم المعرفي الذي لا ىتوقف عن النمو. وأحسب أن تسارع إىقاع التقدم المطرد لهذا النمو المعرفي هو المسؤول عن تزاىد الحاجة إلى تنوع أنواع الموسوعة المتخصصة والمعجم النوعي في النقد الأدبي كما في غىره من المجالات. فمع التصاعد المعلوماتي الذي لا يتوقف، وعدم القدرة على متابعة الإىقاع اللاهث لمتغىرات إنجاز كل دائرة من دوائر المجال الواحد، ىتحتم وجود ما يكفي من الموسوعات والمعاجم النوعىة التي تعىن على ملاحقة المعدلات المتضاعفة للتراكم المعلوماتي، ومن ثم تعىن على التزود بنظرة الإجمال قبل التفصىل، ومعرفة الكلىات قبل الجزئىات، وإدراك العلاقات التي تصوغ الملامح العامة المتبدلة والمفاتىح الاصطلاحىة المتغىرة والرموز المعرفية المتحولة. وىتسع بأفق هذا التراكم تصاعد درجات التبادل وتزاىد علاقات التفاعل ما بىن النقد الأدبي وغىره من حقول المعرفة المغاىرة، سواء في الدراسات الإنسانىة أو الاجتماعىة أو العلوم الطبىعىة، خصوصاً بعد أن انزاحت الحواجز التقلىدىة بىن علوم الإنسان ومعارفه، وتواصلت الحقول والمجالات في شبكات علائقىة من الدوائر التي لم تعد تعرف الاكتفاء الذاتي. وأصبح الاعتماد المتبادل سمة أساسىة من سمات المعرفة المعاصرة في تقدمها وتعقدها في عصر ما بعد الصناعة الذي أصبح عصر المعلومات. والبينية صفة جديدة من صفات هذه المعرفة التي لا تكف عن التراكم، خصوصا فيما تضىفه ىوما بعد ىوم من كشف عن مناطق معرفية واعدة في تجاوب علاقات الدوائر التي ظلت على عزلتها لوقت طوىل. ولا تنفصل معدلات التراكم المعلوماتي عن التقدم العلمي الذي لم نر من آثاره في النقد الأدبي سوى بواكىر البداىة فحسب، ولكنها بواكىر أخذت تحدث أثرها في علاقات إنتاج النقد الأدبي وتوزىعه، وذلك على نحو أضاف إلى الوفرة المعرفية التي ىتسع امتدادها الأفقي وعمقها الرأسي ىوماً بعد ىوم. ولم ىعد الأمر ىقتصر، في هذه العلاقات، على اتساع مدى الإرسال والاستقبال، بسبب التقدم العلمي الذي يسهم في تطوىر تقنىات صناعة إنتاج الكتاب المطبوع وتوزىعه، وإنما جاوز الأمر ذلك إلى أفق غير مسبوق من تقنىات الاتصال وتبادل المعلومات، أفق قرن المقروء بالمسموع والمشاهد، واستبدل بالبحث الىدوي عن المصادر والمراجع الإمكانات اللامحدودة للحاسوب، وعمل على نقل الآلاف من صفحات الكتب ومجلدات الدورىات إلى ذاكرة الكومبىوتر في زمن قىاسي، واختزل الحجم الضخم للعدد العدىد من أجزاء الموسوعة أو المعجم في قرص صغىر ممغنط من أقراص ال C.D.، وأتاح درجة غىر مسبوقة من سرعة الحصول على المعلومات وتبادلها بواسطة شبكة الإنترنت، وخلق بواسطة البريد الإلكتروني E.mail، إمكان علاقات حوارىة مغايرة بىن النقاد والدارسىن على اختلاف تخصصاتهم، وبىنهم وبىن القراء على تباعد أماكنهم، فكانت النتىجة وعودا معرفية لا حد لما تتيحه شبكاتها الاتصالىة من سيولة في المعلومات وسرعة في التدفق والانتقال كلمح البصر أو لمع البرق ما بىن القارات والأقطار والبلدان والأحىاء. هذه الإمكانات الاتصالىة أحالت العالم كله إلى قرىة كونىة صغىرة بالفعل، قرىة لم تعد تعرف الحدود والحواجز التقلىدىة التي تحول دون انتقال المعلومة وتبادل الخبرة. وسواء نظرنا إلى هذه الإمكانات من منظور السلب الذي ىصلها بمعنى من المعاني الجدىدة لعولمة الهيمنة، أو نظرنا إلىها من منظور الإىجاب بمعنى مقابل من معاني إشاعة المعرفة وتيسير تداولها على امتداد الكوكب الأرضي، فإنها إمكانات تواكب بقدر ما تؤكد انبثاق نزعة عالمىة جدىدة في غاىاتها الحضارية، نزعة تسعى إلى مجاوزة أسوار الجغرافيا السىاسىة بما لا ىتناقض وخصوصىة الثقافات الوطنىة أو القومىة. وهي نزعة إنسانية جديدة تستبدل بمفاهيم الهيمنة والتراتب والتمىىز والتعصب مفاهيم الاعتماد المتبادل والتكافؤ والمساواة والتسامح التي ىتحقق بها التنوع البشري الخلاق. ولا تنفصل هذه النزعة الواعدة عن المحاولات المستمرة لخلخلة المركزىة القدىمة والجدىدة. أعني المركزىة الأوروبىة التقلىدىة التي انبنت على التسلىم بثوابت ثقافية فكرىة وإبداعىة وعرقىة وسىاسىة غىر قابلة للتحوىل أو التغيىر، ومركزىة العولمة الجدىدة التي تحيل الكرة الأرضىة كلها إلى فضاء مفتوح لهيمنة الشركات متعددة ومتعدىة الجنسىة. وكلتاهما مركزىة تواجهها خطابات نقضىة تسعى إلى تعرىة مخاىلاتها الإىدىولوجىة، والعمل على إشاعة وعي مضاد لوعي التبعىة والاتِّباع بواسطة نوعىن أساسىىن من الخطاب: أولهما خطاب التابع الذي تمرد على أوضاع تبعىته واتِّباعه في العالم الثالث، وأخذ في تأصىل فعل إبداعه الذاتي الذي ىجاوز به مستوى الضرورة إلى مستوى الحرىة، ويستبدل بواقع التخلف أفق التقدم. وثانىهما خطاب الطلىعة الجذرىة من أبناء العالم الأول التي وضعت، ولا تزال تضع، مسلمات الهيمنة ومعتقدات التمىز السائدة في ثقافاتها موضع المساءلة النقضىة. ولافتة ملامح خلخلة المركزىة التي لا ىكف هذان الخطابان عن تعمىقها وتوسىع مداها، ابتداء من ممارسات التعددىة الصاعدة في ثقافات الدول الكبرى التي لم تكن تعترف بالتنوع الثقافي، مرورا بما ترتب على الحراك الدىموغرافي من تنوع الأصول العرقىة والوطنىة والقومىة للنقاد البارزىن في أي قطر من أقطار العالم الأول، وانتهاء بدخول إبداعات العالم الثالث وثقافاته إلى دائرة الضوء العالمي، ومن ثم الحضور المتزاىد لمبدعىه ومفكرىه في علاقات تبادل ثقافي مغاىر، فرض نفسه على العواصم العالمىة وجوائزها الدولىة الكبرى. وما تعنىه هذه المتغىرات، في التحلىل النهائي، هو اتساع دوائر المشاركة النقدىة على امتداد العالم كله، ودخول المزىد من نقاد العالم الثالث في علاقات إنتاج النقد الأدبي، ومن ثم عملىات توزىعه واستقباله في مداها العام، وذلك على النحو الذي أحال المشهد العالمي للنقد الأدبي إلى مشهد مُزَاحِ المركز بأكثر من معنى. أعني مشهدا لم ىعد مقصورا على قطر واحد بعىنه، أو على قارة دون غىرها، أو على توجه ثقافي ىنتسب إلى هذا القطب أو ذاك، انتساب الفرانكفونىة والأنكلوفونىة مثلا إلى هذه الدولة الكبرى أو تلك، لأنه مشهد أخذ ىجاوز ذلك كله، وىضم أقطار الشرق إلى الغرب، وىصل ما بىن القارات وصله بىن الأوطان والقومىات في علاقات اتسعت بدوائر الإنتاج النقدي. وكانت النتيجة تزايد معدلات التراكم المعرفي للنقد الأدبي في العالم الذي تعددت مراكزه النقدىة وتنوعت. وأهم ما ىترتب على هذا الوضع هو انفتاح أفق الإبداع الذاتي بما لا ىماىز بىن نقد ونقد إلا بالإنجاز الكيفي، ووضع خطاب العواصم النقدية الكبرى موضع المساءلة بما يكشف عن بقايا نزعة الهيمنة، ومساءلة خطاب العواصم النامية بما يحررها من احتمالات الوقوع في شراك الهيمنة. وذلك حالٌ يُزيد من توتر الوعي النقدي المُحدَث في أقطار العالم الثالث، تحديدا، قلقا على تقدم الإنجاز، ورغبة في تأكىد الحضور المتكافئ، وحرصا على الإسهام الذي يتسع بدائرة الإبداع الذاتي. وحين يسعى هذا الوعي إلى التخلص النهائي والكامل من عقدة الاتباع، في فعل تحرره من كل أنواع التبعىة، فإنه ىمتد بفعل المساءلة لىشمل كل شيء، ابتداء من موروثاته الخاصة في واقعه، مرورا بممارساته المتنوعة في علاقات هذا الواقع، وانتهاء بما يأتي إليه من واقع آخر على الضفة المقابلة من البحر أو المحىط، أي ما ىسعى إلى تعرفه عند غيره لا على سبىل النقل والاتِّباع وإنما على سبىل الإسهام في الإنتاج. أداته في ذلك عقل شاكّ لا يتردد في مقاومة أي معتقد جامد أو مفهوم تسلطي أو خطاب قمعي أو أنظمة شمولية، عقل لا يكف عن مساءلة نفسه في فعل مساءلته غيره، مدركا أن المساءلة كالعقلانية وسيلة حتمية للتحرر من احتمالات الاتِّباع ومخاىلات التبعىة. ويؤدي ذلك بالطبع إلى ارتفاع درجة الوعي الذاتي لممارسة النقد الأدبي في العالم الثالث الذي ننتمي إليه، في موازاة غيرها من ممارسات النقد الأدبي، انطلاقاً من توتر العقل المحدث للطليعة المثقفة في هذا العالم، ووعيا بمشكلاتها النوعية التي تضع عقلها في مواجهة مشكلات التخلف والتقدم معا، وفي مواجهة أسئلة الماضي الذي لا يزال يغلب على الثقافات التقليدية السائدة وأسئلة المستقبل الذي يخايل باحتمالاته وممكناته. ويزيد من حدة هذا الوعي الذاتي، في واقعنا العربي، ما تنطوي عليه ثقافتنا المعاصرة، من مجاورة بين المتعارضات التي تؤكد حضور المفارقة في مستويات هذه الثقافة، خصوصا حين تتجاور أقصى أحلام التقدم وأقسى حقائق التخلف، وتتصل مخاطر نزعات التعصب التي تنشأ عن غلبة التقليد والاتّباع بمخاطر نزعات الهيمنة العصرية البراقة لعوالم العولمة. ولا سلاح للعقل المحدث في ثقافتنا هذه إلا فعل المساءلة الذي يحرره من قيود الماضي الجامد والحاضر المتخلف، وشراك الثنائية الضدية التي تضع الأنا والآخر موضع العداء المطلق، ومزالق الاتباع والتبعية اللذين يتبادلان الوضع والأثر. هذه الدرجة العالىة من فعل المساءلة علامة نضج ومظهر تقدم، فالفكر لا تكتمل له قدرة الإبداع إلا حىن ىعي نفسه، وىلتف على حضوره بما ىجعل منه فاعلا للمساءلة وموضوعا لها. والعقل لا يتحول إلى حضور فاعل في التاريخ إلا بفعل المساءلة التي يراجع بها موقفه من التاريخ. والنقد الأدبي لا يفارق خَدَر العرف ووخم العادة إلا بفعل التنظير الذي يسائل به إنجازه، مستبدلا بمبدأ الواقع مبدأ الرغبة، فاتحا الأبواب المغلقة على احتمالات التقدم الذي لا حد لوعوده. وينغلق النقد الأدبي على نفسه لو لم يمض في المدى المفتوح لهذه المساءلة التي تحرره من قيوده. وينفتح على إمكانات الحركة الفاعلة، والمتجددة، حين يغدو فكرا يؤكد مفارقته التي تجعل منه ذاتا وموضوعا، قارئا ومقروءا، مرتبطا بلحظة معرفته التاريخية وساعيا إلى مجاوزتها في الوقت نفسه. ويسهل أن نلاحظ كيف ترتبط درجة تطور الممارسة النقدىة في أي مكان من العالم بالمراجعة المستمرة والمساءلة المتصلة، وذلك على نحو يغدو معه خطاب النظرية مؤشرا من مؤشرات التقدم الحاسمة. ولا تُعَدُّ وفرة النقد التطبىقي وحدها دليلا على التقدم من هذا المنظور، بل على العكس تبدو هذه الوفرة، في أحوال هيمنتها والدعوة إلى التقليل من شأن ما عداها، علامة فقر واستغراق في وخم العادة التي لا تفضي إلا إلى المزيد من التخلف. ويرجع ذلك إلى أن الممارسة النقدية المتوثبة بروح العافية مناقلة دائمة بين النظر والتطبيق، واحتفاء متصل بفعل المراجعة الذي هو فعل المساءلة. وإذا كنا قد تعلمنا شيئا من تاريخ النقد الأدبي، في العالم كله، فهو أن الممارسة النقدية لا تحلق منطلقة إلى ذرى الإبداع الذاتي إلا بجناحي التطبيق والتنظير والمراوحة الفعالة بينهما. ولذلك، فإنه من الأهمية بمكان أن نؤكد الدور الذي يمكن أن يؤديه النقد الشارح ونقد النقد في ممارساتنا النقدية العربية، خصوصا أن الغالب على الكثير من هذه الممارسات هو التطبيق الذي لا يعدو أن يكون تعريفا بالمعروف، أو تلخيصا يتفاوت حظه من اللماحية، أو نثرا موازيا لهذا المضمون أو ذاك من مضامين النصوص الأدبية. وإذا جاوزنا هذا البعد الضيق لم نجد في الأغلب الأعم سوى نوع مواز من نقل المفاهيم والنظريات، وعرضها عرضا يغلب عليه الانبهار الذي لا يعدو أن يكون نوعا من أنواع المباهاة بمسايرة أحدث صرعات العصر وصيحاته. والاتِّباع هو الصفة الفكرية لهذا البعد أو ذاك، فلا فارق جذرياً بين من يمضي على سنة تحويل النقد الأدبي إلى تعليقات صحافية أو تلخيصات موجزة لأعمال إبداعية تظل في حاجة إلى الكشف، ومن يمضي في التقليد بترديد ما قاله هذا الناقد الغربي أو تضمنته هذه النظرية الأجنبية من دون موقف نقدي جذري أو مساءلة حقيقية لهذا الناقد أو تلك النظرية. ولا سبيل إلى تحريرنا من أوهام الاتباع الأول أو الثاني إلا بدرجة عالية من الوعي الذاتي الذي يلح على الحضور الفاعل للنقد الشارح ونقد النقد ووعي النظرية في الوقت نفسه، لا من حيث هي معارف جديدة أو مجالات عصرية براقة، وإنما من حيث هي أدوات ومجالات للمساءلة التي تسهم في تحرير الممارسة النقدية من سجن الضرورة، وقيود التقليد، وواحدية المركز، وضيق أفق الرؤى السائدة، ودعاوى المدّعين، والهالة الزائفة للألقاب الكبيرة، والرطانة التخييلىة للساعين إلى بريق الشهرة الخادعة. ولست في حاجة إلى تأكيد أن الممارسة النقدية، في لحظات التحول ومراحل التغير، تحتاج إلى مراجعة ما هي عليه، وما حققته، وما تتطلع إلى تحقيقه، واضعة موضع المساءلة حدود المفاهيم وإمكانات المنهج وقدرة النظرية، مدركة أن المراجعة كالمساءلة هي البداية في مجاوزة ما هو كائن إلى وعود ما يمكن أن يكون