عاودتني هذا الأسبوع بهجة الفرحة التي أشعر بها عندما أحصل على كتب جديدة تضيف إلى معرفتي، وتفتح لأفق نهمي في القراءة مدى خلاّقا من تحقق مبدأ الرغبة. وكان ذلك عندما جاءني رسول من صديقي فوزي فهمي، يحمل كيسا ضخما يضم الكتب الجديدة المترجمة التي صدرت عن الدورة الحادية عشرة من دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. وما أسرع ما أخرجت الكتب من الأوراق المغلفة بها، وظللت أتصفحها كتابا كتابا، ناسيا كل ما حولي، مؤجلا كل ما كنت أنوي القيام به من عمل في صومعتي المنزلية التي هي غرفة مكتبي، حتى المقالة التي كان من المفترض أن أنتهي من مراجعتها تركتها على مكتبي، فلا شيء أهم من مطالعة عناوين الكتب الجديدة، والاطمئنان إلى حضورها إلى جانبي في الركن الذي يخصها من مكتبتي التي تضخمت وتضخمت، وتوزعت على أكثر من مكان، ولكنها - والحمد لله - لم تصبح، بعد، أضر على زوجي من ثلاث نساء كما قال ذلك الفقيه القديم الذي أشبهه في عشق الكتب. واستغرقتني كتب فوزي فهمي، كما حدث لي معها مرات كثيرة في السنوات السابقة، ابتداء من السنة التي بدأ فيها مشروع ترجمة عدد قليل من الدراسات والأعمال المسرحية الموازية لموضوع مهرجان المسرح التجريبي. وسنة وراء سنة، اتسع المشروع الصغير، وتحول إلى عملية استكمال لثقافة القارئ العربي في ما يتصل بدوائر ثلاث: الدائرة الأولى هي الدراسات الخاصة بتيارات المسرح التجريبي والمسرح الطليعي بوجه عام. والدائرة الثانية هي الدائرة الخاصة بتأصيل فن المسرح نظريا وتطبيقيا. والدائرة الثالثة هي إتاحة النصوص المسرحية العالمية التي لم تترجم إلى العربية، وتقديمها في ترجمات متميزة إلى القارئ العربي بوجه عام، وإلى عشاق المسرح والعاملين فيه من المشتركين في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي بوجه خاص. وكانت خطى المشروع حيية مترددة في البداية، لكن سرعان ما أفادت من أخطائها، وتعلمت من تجاربها ما دفع بها إلى الأمام، خصوصا بعدما قام فوزي فهمي رئيس أكاديمية الفنون - وهي أكبر أكاديمية للفنون على امتداد الوطن العربي - بإنشاء مركز للغات والترجمة، يكون معملا لتفريخ المترجمين اللازمين للمشروع وتدريبهم عملياً بالإسهام في ترجمة الكتب المختارة. وترتب على ذلك تأكد ملامح المشروع وخطته كميا وكيفيا مع الوقت، ومع الإصرار على تطوير الجهد الخلاق وتنمية القدرات. وكانت النتيجة التزايد المطرد لعدد الكتب المترجمة، وحسن اختيار موضوعاتها، خصوصا من حيث ما تمثله من استجابة حيوية إلى حاجات ملحة في تكوين الثقافة المسرحية التي لم تصل بعد إلى ذرى مدّها في بلداننا المنتسبة إلى العالم الثالث بكل مشكلات تخلفه. ولم تكتف كتب المشروع بترجمة الكتب التي تسهم في إشاعة مفاهيم التجريب المسرحي، وتأكيد أهمية فعل التجريب نفسه في تحرير الحياة بأسرها من ثوابتها الجامدة وتقاليدها المتحجرة وعقلياتها المتسلطة، وإنما أضافت إلى ذلك ما يفتح لأذهان القراء أفقا أوسع من الوعي المسرحي، ويتيح الاطلاع على تجارب المسرح الجديدة ونظرياته المحدثة، مردفة ذلك بنماذج من النصوص المسرحية الواعدة التي تضيف إلى الوعي المسرحي الشاب ما تتعين به أحلامه في المجاوزة والتجريب والخروج من المدار المغلق للثقافة الاتباعية السائدة التي تعادي التجريب. وكانت كتب المشروع في تتابعها الصاعد - من هذا المنظور - تجسيدا لعملية تأصيل ضروري للمفاهيم والتيارات والاتجاهات والتجارب العالمية التي لابد من معرفتها والإفادة منها، وذلك في موازاة عملية تحديث تبدأ من الوعي بما لدى الغير وتحويله إلى مرآة يرى فيها هذا الوعي ما هو عليه وما يمكن أن يتطلع إلى تحقيقه. وكنت أقول لصديقي فوزي فهمي إن ترجمة هذه الكتب، في تكامل تخطيطها الذي يصدر عن رؤية جذرية، إنما هي وسيلة من الوسائل الفاعلة في وصل ما انقطع من علاقة المثقف العربي بتيارات المسرح العالمي واتجاهاته، وأداة حاسمة في الانتقال بوعي هذا المثقف من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية في مدى اختياره الإبداعي، ومن مستوى التخلف إلى مستوى التقدم في عمليات إنتاج المعرفة المسرحية وعلاقات استقبالها النقدي الذي يتحول إلى عملية إعادة إنتاج للمعرفة، ومن ثم معرفة مضافة لا تعرف معاني النقل الساذج أو التقليد الأهوج أو المحاكاة المراهقة. وكان فوزي فهمي يضيف إلى ذلك أنه يسعي بهذه الكتب إلى الإسهام في تأسيس بنية معرفيه جديدة بفنون المسرح على وجه الخصوص، ونزعات التجريب على وجه العموم، مدركا أن هذا التأسيس هو تأكيد لحضور الوعي المجاوز الذي لا يقبل المسلمات الجامدة، ويرفض القواعد الجاهزة، ويبحث عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف، وعي أداته السؤال الذي لا يعرف اليقين النهائي، ولا يرضى بالمطلقات التي لا تقبل المساءلة، كما لو كان هذا الوعي يبدأ من جديد سفر النشأة والتكوين، ويؤسس بنفسه ولنفسه مدارا مفتوحا من الحرية الإبداعية والفكر النقدي بكل معانيهما الخلاقة التي تبدأ من المسرح ولا تتوقف عنده. وبالفعل، كانت الكتب التي يشرف فوزي فهمي على ترجمتها كل عام تحقيقا لأحلامنا المشتركة عن الترجمة، أنا فيما أشرف على إصداره من كتب المشروع القومى للترجمة الذي ىنهض به المجلس الأعلى للثقافة، وهو في المشروع الموازي الذي تولّد في المدى المفتوح لأنشطة مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبي. وما كان يمكن لهذا المشروع أن يمضي إلى الأمام، ويصل عدد مترجماته إلى أكثر من مئة وعشرين كتابا، لولا حماسة هذا الصديق الذي يشاركني عشق الكتاب الجديد الذي يضيف إلى المعرفة، والذي ما كان يفرحه شيء أهديه إليه كالكتب التي أحملها إليه من عواصم التقدم التي أزورها. وقد وصلت حماسة صديقي في هذا الجانب إلى حد أنه أصبح يقوم بتكليف كل من يعرفه في كل مكان من العالم باستجلاب كل ما يستجد في مجالات النقد والإبداع المسرحيين، ودفع كل ما يصل إليه إلى العاملين معه في مركز اللغات والترجمة. وليت كل جامعة في العالم العربي تصنع صنيع ما فعله في أكاديمية الفنون، وتنشىء مراكز للترجمة، فما أحوجنا إلى أن نترجم، وأن نعرف ما حولنا في العالم المتقدم على كل المستويات، فكل طرق المستقبل الواعد تبدأ بالترجمة التي هي أول الوعي النقدي بما في عوالم التقدم من أسرار ووعود وإمكانات، وأسئلة مفتوحة تبحث عن إجابات لها في كل مكان من كوكبنا الذي تحوّل إلى قرية كونية صغيرة. هكذا، تركت ما حولي، وقمت بتأجيل أعمالي، كي أتصفح ترجمة ثمانية عشر كتابا جديدا، أضيفت إلى ذخيرة الكتب المترجمة عن المسرح. من هذه الكتب "العمارة والسينوغرافيا" من تأليف جوفاني إسجرو وترجمة أمل كمال عبد الحافظ، و"فن التمثيل: الآفاق والأعماق" من تأليف إدرين ديور، و"مسرح الثمانينات والتسعينات" لبيرند زوخر، و"لماذا نحتاج إلى المسرح" لبيتر إيدين، و"التمثيل والأداء المسرحي" لهايزغوردون، و"طاقة الممثل: مقالات في أنثروبولوجيا المسرح" لأوجنيو باربا وآخرين، و"الارتجال للمسرح" لفيولا سبولين وترجمة سامي صلاح التي تكشف عن مترجم قدير، و"المسرح.. فناً حياً" من تحرير روجيه ديلريم، و"من كتاب الدراما الحديثة" لدا÷يد ماميت، و"من المسرح الألماني المعاصر: تيار الاستكشاف" لغيرت هايدن رايسن، و"الدراما الإنكليزية لما بعد الاستعمار" من تحرير بروس كبنغ وترجمة سحر فراج ومراجعة الصديق سامي خشبة الذي بذل جهدا واضحا في المراجعة. وأخيرا، هناك كتاب صديقنا الناقد الأميركي مار÷ين كارلسون "فن الأداء: مقدمة نقدية" من ترجمة منى سلام. وقد تعاون معنا هذا الناقد القدير، وأستاذ المسرح في جامعة نيويورك، في ترجمة مختارات من المسرح المصري لتكون متاحة لطلابه الذين يدرسون معه تيارات المسرح المعاصر في العالم. وليت فوزي فهمي ينتبه إلى دراسته التي حاول فيها تطبيق مبادئ السميولوُيا الحديثة على المسرح، وقد أصدرها في كتاب مفيد، كان مدخله - فيما يبدو - إلى نظرية الاستقبال التي يعمل في مجالها أخيراً. وإلى جانب الكتب السابقة، توجد مجموعة من النصوص المسرحية الجديدة، أهمها مسرحيتان لمارجريت دورا من ترجمة نورا أمين وهي كاتبة قصة واعدة إلى حد كبير، وواحدة من أبرز الروائيات الشابات في مصر وثلاث مسرحيات تجريبية من المسرح البولندي من ترجمة هناء عبدالفتاح الذي يأخذ على عاتقه ترجمة الإبداع البولندي إلى العربية، وقد سبق له أن ترجم إلى العربية للمرة الأولى - عن الأصل مباشرة - شعر شومبروسكا الشاعرة البولندية التي حصلت أخيراً على جائزة نوبل. وما يلفت الانتباه في ترجمة كل هذه الكتب أنها تمضي في تعميق المسار نفسه الذي مضت فيه الترجمات السابقة. أعني المسار الذي يصل البحث عن الجديد باستكمال معرفة الأصول، ويقرن النقد النظري ونقد النقد أو النقد الشارح بالنقد التطبيقي والتحليلات النصية، وذلك من غير إغفال للنصوص المسرحية نفسها التي تفتح الأبواب المغلقة لشباب المبدعين والمتذوقين على السواء. ويحتسب لترجمة هذه الكتب فضل التعريف بما هو معاصر في تيارات النقد العالمي، خصوصا بعد أن عرفت ترجمات المشروع سبيلها إلى النظريات المعاصرة في "الأداء" و"موت المؤلف" والتيارات "النسوية" المعاصرة في المسرح. وأهم من ذلك خطاب ما بعد الاستعمار ما بعد الكولونيالية الذي استهله كتاب إدوارد سعيد عن "الاستشراق"، ومضى فيه نقاد بارزون من أمثال هومي بابا وجياتري سبي÷اك وهي باحثة مرموقة حسبها رجلا زميلنا عبدالعزيز حمودة لتسرعه المشهور وروبرت يونغ وغيرهم. وقد حملت ترجمات مهرجان المسرح التجريبي لهذا العام كتابا جديدا في خطاب مابعد الاستعمار في مجال المسرح يضاف إلى ترجمات الأعوام السابقة، وأخص منها ترجمة المترجم الواعد والباحث الشاب سامح فكري لكتاب هيلين جيلبرت وُوان تومكينز عن "الدراما ما بعد الكولونيالية: النظرية والممارسة" الذي راجعه سامي خشبة. ويذكر بالتقدير لمشروع ترجمة المسرح التجريبي أنه أوشك أن يتيح للقارئ العربي ما يشبه موسوعة متكاملة، تتاح للمرة الأولى عن التجارب المسرحية في العالم كله. موسوعة لا تقتصر كتبها فحسب على دول المركز الأوربي الأميركي التقليدي، أعني الولاياتالمتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، بل تضيف إليها سويسرا وبولندا وبلغاريا وغيرها من دول أوربا التي لا نعرف عن ثقافاتها الكثير للأسف، وذلك في سياق يضعها جنبا إلى جنب إنجازات العالم الثالث، ابتداء من تجارب أميركا اللاتينية، مرورا بتجارب أقطار آسيا واستراليا، وانتهاء بالقارة الإفريقية التي ننتسب بأكثر من معنى إلى تياراتها المسرحية التي يجهلها أغلبنا في الأغلب الأعم. ويبدو الأمر، من هذا المنظور، كما لو كانت هناك نظرة "ما بعد كولونيالية" تحكم حركة فوزي فهمي في تخطيطه محاور حركة الترجمة التي يشرف عليها. وهي نظرة تتجلى في حرصه على الخروج من دائرة المركزية الأوربية الأميركية التقليدية، والانفتاح على تجارب العالم الثالث التي تشبهنا في الوضع والمشكلات، والانحياز إلى الرؤية المعادية للتبعية في تجارب هذا العالم الذي لا يزال يستكمل، إبداعا وتنظيرا، مسعاه في الاستقلال والتحرر من الهيمنة الجديدة للعولمة الرأسمالية. ويستحق التقدير كذلك في ترجمة كتب هذا المشروع الحرص المتزايد على الترجمة عن لغة الأصل مباشرة، وما تعتمد عليه الكتب المترجمة من عودة مباشرة إلى لغات عدة، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والبولندية والاسبانية، فقد أدرك فوزي فهمي، بعد تجارب سلبية سابقة، أنه لا معنى لدقة الترجمة ما لم تكن عن الأصل مباشرة وليس عن لغة وسيطة. وقد تعلمت شخصيا، في إشرافي على المشروع القومي للترجمة، أن الترجمة عن لغة وسيطة لا تخلو من كوارث علمية فادحة، وأن عدم الدقة والتصرف المعيب والحذف الذي لا مبرر له خصال لا يتميز بها المترجم العربي وحده، لأنها خصال عامة موجودة في العالم كله، ولا نجاة منها إلا بالترجمة عن الأصل مباشرة. ولحسن الحظ أصبح لدينا، اليوم، عدد ضخم من المترجمين المدربين القادرين على القيام بالترجمة المباشرة عن الأصل في الكثير من اللغات الحية المهمة. وتضاعفت فرحتي هذه المرة لأن أخطاء المترجمين الشباب تناقصت، والدقة تزايدت، كما أن المراجعين لم يعد الكثير منهم يكتفي بوضع اسمه على سبيل الزينة، أو سعيا للمكافئة المالية، بل أصبح أكثرهم حريصا على الوصول بالترجمة إلى المزيد من الدقة المحمودة. هناك بالطبع، أخطاء يسهل أن تلمحها العين المدربة هنا أو هناك، واجتهادات عجلى غير دقيقة خصوصا في المجالات المعرفية التي لم يستقر مصطلحها العربي بعد، كما أن هناك تقصيرا في المراجعة لا يزال موجودا، وأخطاء طباعية فاتت على المصححين. ولكن ذلك كله أقل بكثير مما كان يحدث في كتب الدورات السابقة، ويدل على رغبة المضي صعدا في تطوير العمل وتحسين الأداء. وما تحقق من ذلك يدعو إلى الإعجاب بالفعل، وإلى الفرحة الحقيقية التي لابد أن يشعر بها كل الذين يحلمون بمستقبل واعد لحركة الترجمة في بلادنا. وحسب صديقي فوزي فهمي أنه أشرف على ترجمة أكثر من مئة كتاب إلى الآن، وأتاح للقارئ العربي في كل مكان ما لم يكن متاحا له من قبل معرفة متزايدة، وجعلنا، نحن عشاق المعرفة الجديدة، نمتلك مكتبة مترجمة مهمة في فن المسرح، ذلك الفن الذي يسهم مع غيره من الفنون في تحريرنا من قيود الضرورة.