بعد أيام قليلة يبدأ شهر رمضان... وشهر رمضان المبارك، صار، بالنسبة الى عشرات الملايين من المسلمين الصائمين، ومن مدمني الشاشة الصغيرة، مسلسلات تلفزيونية، أكثر مما هو سهرات عائلية لطيفة، وطعام افطار شهي وقمر الدين وعرقسوس وتمر هندي، ومناسبة للإيمان والعودة الى الذات. وهذا الواقع ليس جديداً. فهو السائد منذ سنوات عدة. ومن أجله باتت تسخر آلية الانتاج التلفزيوني كلها تقريباً، في معظم الدول العربية المنتجة. ومن أجلها توقع العقود وتشترى المسلسلات ويعبأ المتفرجون في شتى أرجاء العالم العربي. هذا العام لن تتغير الأمور كثيراً... وها نحن وُعدنا، منذ شهور بعودة نور الشريف، المزواج في رمضان الفائت، عطاراً من حوله سبع بنات هذه المرة. ووعدنا بمسلسلات تاريخية عن زمن الوصل في الأندلس، وبيسرا وسميرة أحمد عائدتين وبالدراما السورية وكوميدياتها الملحقة. بل ان الانتاج اللبناني يدلي بدلوه هذه المرة. وربما يكون هناك نتف من انتاج خليجي. ولكن قصب السباق سيكون مرة أخرى لمصر وانتاجها. ومن المرجح ان المسلسل الذي سيستقطب العدد الأكبر من الجمهور سيكون مسلسل نور الشريف "العطار والسبع بنات"، انطلاقاً من استقطابه المذهب للمتفرجين في الدورة الرمضانية السابقة. ومع هذا ثمة اشارات منذ الآن تدل ان هناك عملاً سيكون منافساً حقيقياً قد يزيح نور الشريف عن "عرشه". وهذا العمل لن يكون، ولا حتى "هولاكو" باسل الخطيب الذي يعد بأنه سيتبدى أكثر المسلسلات التاريخية قوة وجاذبية. ومن الواضح أن العمل الذي سيكون له حظ الفوز على "العطار" لن يفوز بجودته أو بقوته أو بجدارته... طالما ان أحداً لم ير أية حلقات منه بعد، ما يجعل الحكم على مزاياه الفنية مستحيلاً. الفوز سيكون بفعل الضجة. والضجة من حول هذا المسلسل، لم تأت من وسائل الإعلام العربية... بل من الإعلام المناصر لإسرائيل في الخارج "نيويورك تايمز" في الولاياتالمتحدة مثلاً كما من الإعلام الإسرائيلي الجوقة التي تناولته حتى الآن تمتد من "يديعوت آخرونوت" الى "معاريف". والسبب في منتهى البساطة: منذ الآن يقال ان هذا المسلسل يكاد يكون ترجمة درامية حرفية للكتاب السيئ الذكر "بروتوكولات حكماء صهيون". وهكذا عبر مسلسل في عشرات الحلقات يحمل عنوان "فارس بلا جواد" تمكن فن التلفزة العربية من أن يضع نفسه في صلب السجال الطويل العريض الذي يدور منذ أكثر من قرن ونيف من حول كتاب، من المؤكد الآن أنه كان من "فبركة" أجهزة الاستخبارات القيصرية الروسية مبرراً لضرب اليهود الروس... واستخدم دائماً من قبل أنظمة فاشية عنصرية لا سامية من أجل الإمعان في اضطهادهم لتكون النتيجة، في نهاية الأمر، وبالاً على العرب أكثر مما هي وبالاً على اليهود، ذلك ان هذا كله أعطى مبررات سياسية وتاريخية لفكرة "الوطن القومي اليهودي" ونشوء اسرائيل. طبعاً لا نريد هنا أن نساهم في السجال القديم من حول هذا الكتاب. حسبنا منه ان الصهيونية استفادت منه كثيراً. واننا نحن العرب كنا ضحيته. والسؤال الآن: لماذا يرى فنان عربي محمد صبحي عند بداية الألف الثالثة وفي وقت يشتد فيه الحصار من حول الفلسطينيين في العالم وفي فلسطين نفسها، ان من المفيد له أن يترجم ذلك الكتاب عملاً فنياً؟ الحقيقة ان عدداً من المفكرين والنقاد المصريين لم يكونوا قد انتظروا دخول الصحافة الصهيونية أو المتصهينة على الخط، حتى ينبهوا من مغبة عمل سيقال، بسببه، للرأي العام العالمي، أن العرب جميعاً، بدءاً بالمصريين، معادون للسامية وعنصريون بالاستناد فقط الى السمعة السيئة لهذا الكتاب. فمنذ شهور والواعون في مصر يتحدثون عن المشروع. ومنذ شهور يقول بعضهم ان "الدعم الأساسي" لمشروع محمد صبحي هذا، انما جاء من الرئيس العراقي صدام حسين شخصياً... وكأن ما اقترف من لدنه حتى الآن في حق العرب وقضايا العرب لم يكن كافياً! فها هو الآن ينصب لمصر ولفناني مصر ولسمعة مصر في العالم ولدى الرأي العام العالمي فخاً ماكراً من الصعب الإفلات منه. وحتى إذا افترضنا، في هذا الإطار، حسن النيات نتساءل: إذا كان العامة قد باتوا، بفضل التربية والإعلام، من الجهل - في عالمنا العربي الفسيح - حيث لم يدركوا بعد أن معركتنا الحقيقية في العالم من حول فلسطين ومن حول غيرها من القضايا الساخنة التخلف، الديموقراطية، وضع النساء، هدر الأموال العربية... الخ، هي معركة اكتساب الرأي العام العالمي الى صفنا، ولا سيما بالنسبة الى المسألة الفلسطينية الشائكة التي بتنا نعرف، يقيناً، انها لا تمكن ان نكون معركة جيوش وسلاحاً وانتحاراً وما شابه، واكتسابه بالوعي والإدراك ودخول العصر، إذا كان العامة - إذاً - على هذا الجهل ولسوف يكون من شأنهم أن يقبلوا على مثل هذا المسلسل بفرح أطفال يعتبرون كل ما "يغيظ" الآخرين انتصاراً لهم، أليس من الأجدى بالخاصة - بمن فيهم الفنانون، ومحمد صبحي عادة من المجلّين بينهم، تمثيلاً ان لم يكن فكراً -، ان يتنهبوا الى هذه الحقيقة البديهة؟ ان السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي جدوى الانطلاق من نص اجمع العالم - صواباً أو خطأً - على انه مزور ومزيف، وأجمع التاريخ على أن الزعماء الصهاينة عرفوا، إذ وجدوه في طريقهم، كيف يوظفونه جيداً لتبيان حقنا الفلسطيني من خلاله؟ هل نحن حقاً في حاجة الى مثل هذه الأعمال الكئيبة المشبوهة لنحولها أعمالاً فنية "نعلّم" من خلالها الأجيال، ونخاطب الرأي العام؟ في الحقيقة، انه وسط الأزمات وضروب الضغط التي نعانيها ونتخبط فيها لم يكن ينقصنا سوى هذا. ولم يكن ينقص "سمعتنا" لدى الرأي العام العالمي، ولا سيما بعدما كان في 11 أيلول سبتمبر سوى هذا الفصل الجديد من فصول التخلف الفكري والفني، حتى تكتمل الصورة، ويفقد بعض آخر ما تبقى لنا من صدقية لدى رأي عام عالمي نعرف مدى حساسيته الى مثل هذه الأمور. ولعل السؤال الذي طرحه زميل مصري، وهو يندد باكراً بهذا العمل، وحتى قبل أن تسمع به أبواق الإعلام الصهيوني، يأتي خير خاتمة تمثل هذا الكلام: ترى أوليس في حاضر الممارسات الاسرائيلية الدموية الاجرامية، تحت حكم شارون ما يكفي لادانة اسرائيل، حتى نلجأ الى فتات ماض بعيد، يعرف العارفون جيداً ان مجرد استثارته واخراجه من مزابل التاريخ التي كان ألقي فيها، انتصار معنوي كبير للجلادين الشارونيين؟ إ. ع.