قبل بلورة مواقف اعضاء مجلس الأمن من المشروع الاميركي حول لجان التفتيش، والسعي الاميركي لتطويع القرار الدولي لمصلحة الدولة الاعظم. وبصرف النظر عن مدى نجاح الولاياتالمتحدة او تراجعها امام تنامي المعارضة الدولية لضرب العراق، فإن عدداً كبيراً من الظواهر التي تبرز في الغرب وعلى امتداد العالم، تؤشر لمرحلة صراع دولي بين الادارة الاميركية وبين بقية العالم بنسب متباينة بطبيعة الحال، ظواهر قابلة للزيادة والتراكم، تتفاعل على المسرح الدولي وتنبئ بمرحلة جديدة من الصراعات ومن التحولات ستنعكس على البشرية في القرن الواحد والعشرين. لا يفوتنا ان نجتهد في الاسباب والخلفيات التي تدفع سياسيين ومثقفين غربيين للاعتراض، فمنهم من يخشى من خسارة الحرب العالمية على الارهاب كنتيجة لضرب العراق، ومن يخشى ردود الفعل الاستشهادية وعلى نطاق واسع ضد مصالح الغرب ككل، ومن يخشى على مستقبل اميركا ودورها العالمي، ومنهم من يتحرك بدوافع قومية او قارية او انسانية او دينية. والمؤلم ان التحركات العالمية ضد الهيمنة الاميركية لم تلق الاحتضان من مؤسسات العمل العربي المشترك لتوظيفها لمصلحة قضايانا، والمؤلم اكثر اننا لا نتصدر هذه المواجهة ونحن المستهدفون بالدرجة الاولى من هذه الهيمنة ومشاريعها الاحتوائية لارادتنا والمقدرات. وبتلخيص شديد لما تسعى اليه الادارة الاميركية، فإن امامنا وثائق مكشوفة، ولدينا التوجيه الرئاسي الذي وضع تحت انظار الرئىس جورج بوش صباح تسلمه لمنصبه والذي تسرب الى مركز دراسات وأخذ طريقه لمجلة "وجهات نظر" المصرية الصادرة في حزيران يونيو 2001، وأمامنا استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، وأمامنا وثيقة هارت - رودمان التي كشفت عام 2001 حول اساليب التعامل مع التطورات العالمية خلال الربع الاول للقرن الواحد والعشرين في عنوان "الشرق الأدنى الكبير"، إضافة الى دراسات البنتاغون في عهد الوزير رامسفيلد والمعلومات المنشورة عن خلفيات وتوجهات اعضاء الادارة والجهاز التنفيذي الحاكم، ثم العقلية المذهبية "للمسيحية الصهيونية" التي يلتزم بها معظم اعضاء الادارة، إضافة الى ملايين الاميركيين. سأكتفي الآن بعناوين من دون تفاصيل لما تخطط وتعمل له الادارة الاميركية: اولاً: الحيلولة دون بروز اية قوة جديدة منافسة للولايات المتحدة على المسرح الدولي والاحتفاظ بالقيادة المطلقة. ثانياً: تحقيق الاهداف الاميركية بواسطة الأممالمتحدة او من دونها وعدم قبول المشاركة في القرار العالمي. ثالثاً: فرض العولمة الاميركية وإزالة الحواجز امام الشركات الاميركية على مستوى العالم، ونشر الأمركة الديموقراطية الدينية الاجتماعية الثقافية تحت شعار العولمة وعلى امتداد الكون. وفي المجال العربي الاسلامي: 1- تحرير العالم الاسلامي بحسب تعبير السيدة كوندوليزا رايس في ايلول/ سبتمبر 2002 ونشر الاسلوب الديموقراطي الاميركي في ربوعه. 2- تغيير الانظمة العربية بالتوازي مع تبديل الكيانات الوطنية لبعضها. والعناوين الكبرى وفقاً للمخطط الاميركي في المنطقة تقوم على ركيزتين: الديموقراطية والفيديرالية وتسويق الديموقراطية للغالبية وللمثقفين الذين يشكون من استبداد انظمة ويتطلعون الى التغريب كوسيلة تقدم، والفيديرالية لكل "الاقليات" او الاعراق من غير الاصول العربية في المنطقة. ويمثل هذا النهج الاميركي اقتراباً شديداً من المشروع الاسرائىلي في المنطقة الذي كشفه اسرائىل شاهاك عام 1982 عن المؤتمر اليهودي العالمي الذي عقد في القدس ويقضي بتقسيم معظم الكيانات العربية لينجح مشروع اسرائىل الكبرى، حيث ان الأمن الاسرائىلي لا يتحقق وفق فهم هذا المؤتمر اليهودي الا بعاملين: الاول احتكار التفوق النووي الصاروخي على كل البلدان العربية، والثاني تقسيم الكيانات الكبرى في المنطقة. واذا راجعنا نظرية ماكندر الانكليزي قبل خمسين عاماً والتي تحولت الى التزام اميركي، نلاحظ هنا ان مشروع الهيمنة الاميركية المطلقة على الأمة العربية والعالم الاسلامي لا يعني فقط هذا العالم وانما يعني بصورة مباشرة اجهاض وقتل اي احتمال بقيام منافس دولي للولايات المتحدة، من الصينوروسيا الى الاتحاد الاوروبي... وعلى هذا الاساس نفهم تكاثر اعتراضات هذه الكتل العالمية للتوجه الاميركي الاحتكاري لمقدرات الكون. وتقوم نظرية ماكندر على فكرة "ان السيطرة على المنطقة الممتدة من اوروبا الشرقية الى آسيا والخليج تؤدي الى السيطرة على العالم، نظراً لاحتواء هذه المنطقة على ثمانين في المئة من ثروات العالم". فقبل احداث 11 ايلول، سارعت اميركا الى ضم عدد من دول اوروبا الشرقية لحلف الاطلسي، ثم تحركت بسرعة نحو القوقاز في جورجيا وأذربيجان وخصوصاً في افغانستان وتستعد لضرب واحتواء العراق، وهذا ما تعنيه تماماً كوندوليزا رايس "عن تحرير العالم الاسلامي"! ومع الحذر الشديد من هذه المخططات الاميركية، نسمح لأنفسنا بالتشكيك في مقدرة الولاياتالمتحدة على تحقيق كل هذه الاهداف في المدى القصير او الطويل، ولنا اسبابنا في هذا الشك بمدى المقدرة الاميركية: 1- على رغم الدعم الاميركي المطلق للنظام العنصري في جنوب افريقيا، فإن هذه الدولة تحررت بفضل نضال شعبها بقيادة البطل نلسون مانديلا. 2- فشلت اميركا في القضاء على نظام كاسترو في كوبا كما فشلت في تبديل القائد شافيز في فنزويلا، وفشلت في تأخير جلائها العسكري عن قاعدة باناما. 3- فشلت اميركا في تبديل الرئىس الماليزي مهاتير محمد بالمعارض السجين انور، كما فشلت في القضاء على نظام موغابي في افريقيا. 4- فشلت في احتواء الصين الشعبية والتقليل من نموها الذي وصل في الستة اشهر الاخيرة الى 8 في المئة وهو اعلى الارقام العالمية في النمو. 5- فشلت في تغيير النظام في جمهورية ايران الاسلامية، وما زالت في حال استنزاف في أفغانستان حيث لم تنجح في القضاء على "طالبان" و"القاعدة" وقيادتيهما باعتراف البنتاغون. واذا كانت الولاياتالمتحدة فشلت في القضاء على منظمة الدول المصدرة للنفط اوبك، فإنها فشلت في تقويض جامعة الدول العربية - مع حال التردي العربي - واستبدالها بالشرق اوسطية، وعجزت عن تصفية القضية الفلسطينية. وعلى المستوى الاقتصادي تتعثر منظمة التجارة العالمية "الغات" لأن الادارة اضطرت الى تدخل الحكومة اقتصادياً بعد احداث 11 ايلول ورفعت معدل الجمارك على بعض الواردات الاساسية، ما عرضها الى محاكم واشكالات ذات شأن مع الاتحاد الاوروبي واليابان، فحدث الاضطراب المرشح للازدياد في "الغات". فإذا وضعنا ديون الدولة الاميركية 3 آلاف بليون دولار الى جانب الخسائر الاقتصادية 2 تريليون دولار بعد 3 شهور على احداث ايلول، وأضفنا خسائر الشركات الخمس 360 بليون دولار، فإننا نصدق بول كندي الذي اصدر كتابه الشهير "رؤية للقرن الواحد والعشرين" والذي صدر قبل احداث ايلول ويقول فيه "ان اقتصاد الولاياتالمتحدة لا يسمح لها بتحمل اعباء الامبراطورية". واذا كان من الطبيعي ان تسحب بلايين دولارات عالمية وعربية من اميركا ولا تدخلها اموال معتبرة مع تراجع السياحة، فإن ذلك كله لا يبشر بنهوض اقتصادي كما تروّج الادارة بل ان تكاليف الحرب غير المحسومة النتائج أميركياً تفوق المئتي بليون دولار ستضيف اعباء على الخزينة! اعتماداً على ما تقدم، فإن سياسيين ومثقفين اميركيين وأوروبيين يعترضون على نهج الادارة، وسأعرض مقاطع مهمة من هذه الاعتراضات لأهميتها كنواة في تشكيل حال اعتراض عالمي، وحواجز لها قيمتها في التصدي للنهج الأميركي. فاذا راجعنا خطب الرئيس الأميركي واعضاء ادارته، يتبين لنا تركيزهم على "ان الارهاب يستهدف الحضارة الغربية، وهو عدوان على الاطلسي، وانها لحرب صليبية"، ان هذه المقولات تستهدف الحاق اوروبا بأميركا بحجة وحدة المصلحة والاستهداف بقدر ما تستدرج مواقف مسيحية عالمية ضد ما تعتبره الارهاب الاسلامي. فهل نجحت ادارة الولاياتالمتحدة حتى الآن في تشكيل هذه الجبهة؟ على مستوى المسيحية الغربية، فان الكنائس البريطانية اصدرت في 6 آب اغسطس 2002 عريضة وقّعها ثلاثة آلاف مسؤول ديني نظمتها "جمعية باكر كريستي" وبرئاسة رئيس الكنيسة الانغليكانية روان وليامز الذي يرعى سبعين مليون انغليكاني، قالوا في بيانهم: "ان الحرب الاميركية على العراق هي حرب لااخلاقية وترفضها المسيحية". وفي 4 ايلول 2002، صدر عن المجلس المسكوني للكنائس العالمية بروتستانت، انغليكان، ارثوذكس، كاثوليك، بيان جاء فيه: "يدعو المجلس الولاياتالمتحدة، لعدم مهاجمة العراق ويعبّر عن قلقه الشديد لضرب العراق وقلب نظامه، وعلى الولاياتالمتحدة ان تتراجع عن التهديدات العسكرية ضد دولة تتمتع بالسيادة، وبأن الرد على الارهاب يجب ان يكون في حدود القانون". وصدر عن مجلس الكنائس العالمي وقاعدته الاساسية الكاثوليك، بيان في اوائل تشرين الاول اكتوبر 2002 يرفض فيه ضرب العراق، وتجاوز الاممالمتحدة ويدعو الى اعتماد العدالة في العلاقات الدولية، وصدر عن الكنائس الاميركية بيان مماثل. وهنا أود ان اقول انه عدا اصحاب مذهب "المسيحية - الصهيونية" في الولاياتالمتحدة، فان الغالبية الساحقة في كنائس العالم وفي طليعتها الكنائس الشرقية ترفض الهيمنة الاميركية وضرب العراق واستباحة الفلسطينيين واختراق سيادات الدول واسقاط دور الاممالمتحدة في حل المشكلات العالمية. ان خلفية مواقف الكنائس تقوم بالدرجة الاولى على سحب الغطاء المسيحي العالمي عن الادارة الاميركية التي تحولت عارية الا من غطاء "الصهيونية - المسيحية". واذا كان بعض الكنائس الأوروبية تأثر بأجواء السلطات، فلا يمكن اعتبار موقف الكنائس البريطانية من مؤثرات سلطة الرئيس بلير الغارق حتى اذنيه في التطرف الاميركي، ولا نشك في رغبة هذه الكنائس بمنع اندلاع حروب دينية تأكل الاخضر واليابس. ولا نستطيع ايضاً ان نقلل من أهمية شعور هذه الكنائس بأنها لا تتفق مع المتغير الصهيوني للمسيحية المعتمد من مذهب الصهيونية - المسيحية والذي تسعى دوائر اميركية ذات نفوذ كبير لهيمنة هذا المذهب على مسيحيي العالم خصوصاً مسيحيي الشرق. ان مسيحيي الشرق من موارنة وأقباط وأرثوذكس كانوا تعرضوا ايام البيزنطيين الى حملات إرهابية لفرض مذهب مسيحي بيزنطي فرفضوه ودفعوا ثمناً باهظاً لهذا الرفض من اضطهاد وتعسف وقتل وتدمير، بحيث ان مسيحيي الشرق رحبوا بالفتح العربي الذي جاء إنقاذاً لهم من الاستعمار البيزنطي. ومن الأسف الشديد ان مواقف الكنائس العالمية المتعاطفة مع قضايا العرب لم تلق الاحتضان الكافي من الدوائر المعنية في الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي والنجف الأشرف، فمثل هذه المواقف المسيحية تحتاج الى احتضان وتفاعل وترحيب، وصولاً الى عقد مؤتمر عالمي اسلامي - مسيحي يؤكد القيم الدينية المشتركة، ويرفض صراع الأديان ويدعو لحوار الثقافات والحضارات انطلاقاً من قيم انسانية مشتركة، اساسها حقوق وحريات الشعوب وحقوق الإنسان والتعايش واحترام التعددية والحرية والتزام ميثاق الأممالمتحدة. لمواجهة الاحتمالات، وأولها الاصرار الأميركي على الهيمنة على الأمة العربية والعالم الإسلامي، نطرح جملة اقتراحات تخدم حال الممانعة والصمود في الأمة: أولاً: تحصين الوحدات الوطنية في الأقطار العربية وخصوصاً تلك المستهدفة بالمخطط الأميركي الصهيوني التقسيمي والاحتوائي. ان ذلك يتطلب فرز المعارضات العربية بين معارضة وطنية تنشد الإصلاح والتطوير والمشاركة، وبين معارضة انفصالية تقسيمية تتجاوز معارضة النظام السياسي نحو معارضة وحدة الكيان الوطني، فترضى بالتقسيم والاقتسام للوطن بذريعة تغيير النظام بالتعاون مع السيطرة الأجنبية. ومن الأهمية بمكان ان تتجه ادارات النظم السياسية للانفتاح وقبول المشاركة وتوسيعها وإتاحة حرية التعبير والرقابة واستقلالية القضاء وحقوق المواطن السياسية والاجتماعية لتحصين الوحدات الوطنية. ثانياً: الاتجاه لتطوير العمل العربي المشترك خصوصاً في المجالين الدفاعي والاقتصادي، وتشكيل مجلس امن قومي عربي. ثالثاً: اقامة مجلس للسياسة الخارجية العربية لمخاطبة العالم بلغة موحدة في القضايا القومية المشتركة واعتماد استراتيجية واضحة تؤدي الى تحييد الخصم وتعزيز موقف الصديق، وتعزل العدو، وتستفيد من التناقضات بين الكتل العالمية وتنفتح على العالم الثالث وتخاطب الشعب الأميركي بلغة الصداقة لتحريضه على إدارته العنصرية. نحن كعرب في حاجة الى اعتماد معيار موحد للمصلحة العربية العليا يكون الأساس في ترتيب علاقاتنا الدولية، من مصلحتنا ان نعزل عدوانية الإدارة الأميركية ونحاصر العنصرية الصهيونية وليس توسيع مؤيديها من طريق العداء لأوروبا او الصين او روسيا بارتكاب حماقات تقوم بها قلة جاهلة تضع المسيحيين بالمطلق الى جانب الصهاينة، أو تقتل مدنيين ابرياء، او تقوم بما من شأنه دفع اوروبيين للالتحاق بالإدارة الأميركية. من مصلحتنا ابراز الوجه الحضاري المشرق للعرب والمسلمين، وليس من مصلحتنا ان يتحدث باسمنا متطرفون وجهلاء ومكفّرون عشوائياً للمجتمع ولمسلمين. لنرفع اصواتنا ضد التطرف ومن يتصرفون كأنهم يحتكرون الإسلام، فالإسلام العظيم اعطى الإنسانية اروع حضارة وأسمى قيم. ولن نخشى، ونحن مؤمنون صابرون صامدون، هجمات اميركا وعدوان الصهاينة، فأمتنا وجدت لتبقى بإذن الله، ولسوف يندحر المعتدون مهما كان جبروتهم. * سياسي لبناني. رئيس المؤتمر الشعبي في لبنان.