طغت على الأنباء في واشنطن الجهود التي تبذلها الإدارة الأميركية للحصول على قرارات من الأممالمتحدة والكونغرس تخولها القيام بعمل عسكري ضد العراق. واستمر النقاش حول الحجج المقدمة لشن الحرب. وعرضت شبكات التلفزة الأميركية برامج عن اللغط الدائر حول مفتشي "إنموفيك" ال220 بقيادة هانس بليكس، والشكوك المحيطة بقدرتهم على إنجاز أعمالهم في بلد تبلغ مساحته مساحة فرنسا. ومع نهاية الأسبوع تبين أن استصدار قرار من مجلس الأمن يسمح باستخدام القوة ضد بغداد ليس سهلاً. نشرت صحيفة "وول ستريت" الجمعة تقريرًا خاصًا من دون الإشارة إلى مصدره، مفاده أن الادارة تدرس خطة بديلة للخطة فرنسية القائمة على مرحلتين من قرارات الأممالمتحدة قبل تنفيذ ضربة ضد العراق. وبحسب الخطة الجديدة يفرض مجلس الأمن شروطًا أكثر صرامة للتفتيش عن الأسلحة في بغداد، ويطالب بقرار مستقل لاستخدام القوة. وإذا انضمت بريطانيا إلى الموقفين الفرنسي والروسي للخروج بتسوية مبنية على هذه المسارات فإن الولاياتالمتحدة ستجد نفسها تحت ضغط دولي هائل لقبولها. أما على صعيد الكونغرس، فتحقق الإدارة نجاحًا أكبر وإن لم يكن كاملاً حتى الآن. ويرى معظم المراقبين أنها ستضمن قرارًا مؤيدًا لجهودها في الكونغرس. لكن هذا القرار سيأتي على رغم الاحتجاجات المفترض أنها فردية ولكن شديدة من السناتور روبرت بيرد، ممثل وست فرجينيا، الذي اتهم البيت الأبيض بشن حملة ترمي إلى جعل الملف العراقي في رأس الأولويات. وصوتت لجنة العلاقات الخارجية الخميس ب31 صوتًا في مقابل 11 لصالح القرار 114 القاضي بتفويض الإدارة استخدام القوة ضد العراق. وذلِّل عدد من التعديلات على هذا القانون إلى أن يبدأ نقاشه اليوم 8/10/2002. ومن أبرز الذين صوتوا بالرفض على القرار، عضو الكونغرس الجمهوري والموظف السابق في الشؤون الخارجية جيم ليش من آيوا الذي قال إن توقيت ضرب العراق وشعبه خاطئ. وهناك عدد من رجال الكونغرس ومجلس الشيوخ، من الراغبين في العودة للتركيز على الانتخابات، والذين يأملون في الانتهاء من الجدل والتصويت سريعًا على القرار. وفي مجلس الشيوخ أبدى السناتور ليفن من ميتشيغان إصرارًا على مناقشة قرار من شأنه الحد من حرية الرئيس جورج بوش في اتخاذ القرار عبر خفض الذرائع الممكن استخدامها لشن حرب على العراق وحصرها في نزع الأسلحة العراقية. غير أن من المؤكد أن يصوت الكونغرس بغالبية ساحقة على قرار شبيه، إن لم يكن مطابقًا، للغة قرار لجنة الشؤون الخارجية. وعندئذ سيكون عمل الإدارة الحصول على قرار من الأممالمتحدة. ومن جهتها فإن روسيا تنتظر تقريرًا من بليكس لتقرر ما إذا كانت ستستخدم حق النقض. وفي مقابل التنازل عن الفيتو ترغب روسيا في التخلص من القيود المرتبطة بتعديل "فانيك - جاكسون" الذي يعود إلى الثمانينات وكان يهدف يومها إلى تسهيل هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل. ومن المحتمل أن يضاف هذا التعديل إلى لائحة الامتيازات المالية والسياسية التي ستتنازل عنها الولاياتالمتحدة في إطار السعي إلى ضمان عدم استخدام الفيتو الروسي في مجلس الأمن. غير أن هناك مؤشرات إلى أن روسيا تسعى إلى الحصول على أكثر من ذلك بإصرارها على أن الخطة الفرنسية تضمن سيطرة الأممالمتحدة. وشأنهم شأن الفرنسيين، يشعر الروس بقلق من قرار للأمم المتحدة يوفر للولايات المتحدة ذرائع إضافية لشن الحرب. ونقلاً عن "ذا نيو ريبابليك" فإن المرء يخشى أن يكون موقف موسكو وباريس يتعارض مع ما كان يدور في رأس مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس حين تحدثت في مطلع الأسبوع في معهد مانهاتن، عن حقبة جديدة تتسم بالتعاون بين القوى الكبرى بعد 11 أيلول سبتمبر 2001. ومن المؤكد الأن أن بليكس لن يذهب إلى العراق قبل مضي أسبوعين على رغم ما أعلنه في المؤتمر الصحافي الذي عقده الثلثاء الماضي. وتبرر الأممالمتحدة ذلك بقولها إن بليكس في حاجة إلى إنهاء مناقشة بعض التفاصيل. إلا أنه من الواضح أن بليكس يتصرف استجابة لطلب الولاياتالمتحدة، التي ترى أن هناك حاجة إلى قرار جديد من مجلس الأمن قبل توجه المفتشين إلى العراق. والواقع أن ذلك بات واضحًا، إذ سارع وزير الخارجية كولن باول في اليوم نفسه إلى عقد مؤتمر صحافي في وقت النشرة المسائية في الإعلام الأميركي ليرد على بليكس. وتجنب باول توجيه أي انتقاد لرئيس المفتشين، بل امتدحه لتمهيده الطريق في شكل أفضل، لكنه تعمد التوضيح بأن الولاياتالمتحدة لن تدعم أي نظام للتفتيش عن الأسلحة يتم بموجب قرارات الاممالمتحدة القديمة. ولم يرق مؤتمر باول الصحافي للكثيرين، واعتبرت غالبية المراقبين أن الأسبوع الذي قضاه الرئيس بوش في الكونغرس أكثر نجاحًا. ولكن على رغم ذلك فالنجاح ما كان ليتحقق من دون مشاهد التزاحم خلف الكواليس. وهكذا شهد يوم الثلثاء 1/10/2002 صوغ مذكرة في مجلس الشيوخ لدعم قرار الحرب، أطلق عليها اسم "بيدن - لوغر"، نسبة إلى الراعيين الرئيسيين للمذكرة وهما رئيس لجنة الخارجية في مجلس النواب جو بيدن من ديلاوار ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأحد حكماء الجمهوريين السيناتور ريتشارد لوغر من إنديانا. لكن لهجة المذكرة التي كانت أكثر تحفظًا مما تطلع إليه البيت الأبيض كان من شأنها الحد من صلاحيات الرئيس في قصر العمل على العراق، وجعل ذريعة الحرب مقتصرة على موقف العراق من قضية نزع الأسلحة. وعلى عكس قرار الرئيس، الذي تسربت خطوطه العامة من خطابه في الأممالمتحدة، فإن صيغة القرار ركزت على مسألة أسلحة الدمار الشامل، وليس على التعويضات عن حرب الخليج أو الأسرى الكويتيين وغيرهم الذين ما يزال صدام حسين يحتجزهم. وفي صبيحة الأربعاء التالي جرى الالتفاف على مذكرة بيدن - لوغر ومذكرة زعيم الغالبية السيناتور توم داشل عندما التقى بوش قادة الحزب الجمهوري وزعيم الأقلية الديموقراطية ريتشارد غيبهارت، الذين أعلنوا اتفاقهم حول ما يفيد بإمكان تقديم دعمهم. وتم التوصل إلى هذا الإجماع من دون مشاركة بيدن ولوغر وداشل، وجاء في حدود أضيق من قرار الرئيس إذ حدد الأمر على العراق، لكنه كان أرحب من لهجة مذكرة بيدن - لوغر. وهذه التسوية تركت داشل في موقف العاجز مجبرة إياه على إلغاء مؤتمره الصحافي الصباحي. وعزا المحللون موقف غيبهارت المؤيد لبوش إلى ثلاثة دوافع: الأول هو قناعته الحقيقية، إذ كان ممن صوتوا عام 1991 ضد قانون الكونغرس الذي يجيز استخدام القوة ضد العراق، وذكرت الأنباء أنه ندم على ذلك يومها. والدافع الثاني الطموح السياسي، إذ يعتقد الكثيرون أنه يستعد لخوض الانتخابات ضد بوش، وأن هذه الصورة لدعم الرئيس سيبعد العراق عن أن يكون سبًبا يستخدم ضده في حملته الانتخابية. أما الدافع الثالث وربما الأهم فناجم عن رغبته في توفير غطاء للديموقراطيين الذين يخوضون حملات انتخابية في ولايات تؤيد خيار الحرب. ومما لا شك فيه أن عدداً من الديموقراطيين حضّوا غيبهارت على توفير غطاء لهم خلال هذا الأسبوع، بعدما حفلت قنوات التلفزة بتغطيات لزيارة عضوي الكونغرس بونياور وماك ديرموت للعراق، وحديثهم عن العقوبات القاسية التي فرضت على الشعب العراقي. وبونياور هو الشخصية الثانية في الحزب الديموقراطي في المجلس، وسيفقد مقعده في تشرين الثاني نوفمبر بعد خسارته انتخابات حاكم الولاية، وهو صديق قديم لعدد من دعاة السلام من معسكرات اليسار وصديق أيضًا للجمعية العربية - الأميركية التي يمثلها. ومع نهاية الأسبوع الماضي كان باول ورايس يجتمعان ببليكس وفريقه لمناقشة مسألة التفتيش. وينهي هذا الاجتماع أسبوعًا من الجدل عن باول الذي ستلومه وسائل الإعلام المحافظة الجديدة إذا استمرت الأمور على هذه الصورة السلبية في الأممالمتحدة. إذ ينظر إلى باول كشخصية مثيرة للجدل على صفحات بعض المجلات الأميركية مثل مجلة "ويكلي ستاندارد". وذكرت صحيفة "يو أس أي توداي" في تقرير خاص أن باول أشار الأربعاء الماضي إلى أن سياسة بوش حول تغيير النظام العراقي في حال عدم وقوعها يمكن أن تمنح صدام حسين قوة إذا دمرت أسلحته بالكامل. واعتبرت بربارا سلافين من "يو أس آي توداي" أنه على رغم أن باول يكرر عبارات بوش فإن ملاحظاته تمثل خطوة جديدة، وتعتبر المرة الأولى يقول أحد أركان الإدارة إن النظام العراقي يمكن أن يغير أساليبه وليس رئيسه. وفي وقت متأخر من ذلك اليوم نفسه صحح الناطق باسم الرئيس آري فلايشر الصورة بقوله: "أعتقد أنه إذا كان هناك من يفكر أو يتوقع أنه في حال استخدام الولاياتالمتحدة القوة العسكرية أن تكون إحدى النتائج المترتبة على ذلك هي بقاء صدام حسين على رأس النظام العراقي، فإن هذه فكرة خاطئة". وسأل المراقبون عما إذا كان هذا ببساطة هو عبارة عن إيضاح الأمور أم هو مثال آخر على عدم الانسجام في الرأي بين باول والبيت الأبيض؟ على أي حال، لا تزال لدى باول آفاق رحبة لإدارة الأمور في أروقة الأممالمتحدة. إذ إن مضاعفة الجهود الأميركية قد تساعد كلها الولاياتالمتحدة في الحصول على قرارات مقبولة، خصوصًا أن الحملة لاستصدار قرار دولي ترافقها جولة ديبلوماسية يقوم بها وزير الخارجية. ولكن حتى لو نشط باول في هذا الجو المتعدد الوجوه فإن بوش والمتشددين في إدارته سيبدأون بكل تأكيد في تصوير الدعم من الأممالمتحدة بأنه أقل من المطلوب للإدارة التي من الواضح أنها ستتحرك منفردة. وإذا أبدت موسكو وباريس مزيدًا من احتمال استخدامهما لحق النقض فإنه يمكن التنبؤ بأن المتشددين سيبدأون في الحال بالإدعاء بأن الأممالمتحدة في حاجة للولايات المتحدة أكثر من حاجة الأخيرة للأمم المتحدة. والواقع أن هناك الآن من بدأ بالعزف على هذه النغمة. وليس إلا القليل مما قاله الرئيس بوش يدع مجالاً للشك في نية الولاياتالمتحدة بأنها ستتحرك لوحدها، سواء بموافقة الأممالمتحدة أو من دون موافقتها. وكان بوش أعلن الخميس الماضي أمام ممثلي الأميركيين من أصول لاتينية بأن الكرة في ملعب الأممالمتحدة. وأن الخيار يعود لصدام حسين في الوفاء بالتزاماته. وفي حال أن أيًا منهما لم يحسم أمره فإن الولاياتالمتحدة ستلجأ بروية إلى قيادة تحالف دولي للتخلص من أسوأ ترسانة للأسلحة يمتلكها أحد أسوأ القادة في العالم. ولاحقًا، عقب فليشر بقوله إن الرئيس لم يكن يتصور أن مجلس الأمن الدولي سيغدو جهازًا غير ضروري من خلال تركه الأمور على حالها في الوضع الراهن. في غضون ذلك، لا تزال دعوة عضو الكونغرس جون سبرات في وسائل الإعلام إلى عقد قمة لمناقشة النفقات اللازمة للحرب ضد العراق، تحظى بقليل من الاهتمام. وبالمثل كان وقع قرار الإدارة بنقل السفارة الأميركية إلى القدس قليلاً نسبيًا داخل الولاياتالمتحدة. وظهرت في صحيفة "واشنطن تايمز" 4/10/2002 حكاية أبو مصعب الزرقاوي، أحد المخططين ال20 من تنظيم "القاعدة"، الذي التقى بعض الشخصيات العراقية بعد هربه من أفغانستان. ويتوقع ان تكون هذه القضية محور الأحداث في الأسبوع المقبل. * تنشر "الحياة" هذا التقرير بالاتفاق مع "مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية" في دولة الكويت.