لا يأتي حوار الشاعر بندر عبدالحميد في ديوانه الجديد "حوار من طرف واحد" دار المدى، 2002 هامساً، ولا موارباً، فهو حوار من طرف واحد، محكوم بصمم العالم المحيط. يديره الشاعر مع نفسه، بمرارة أحياناً، وبتفاؤل حذر أكثر الأحيان، فالعالم الذي يحاوره مشغول بالقتل والحروب والشعارات، وابتكار تكنولوجيا ترجم الإنسان بكل ما في جعبتها من فظاظات. ومغني دمشق السادر في بيته الصغير قرب الصالحية، لا يملك سوى الشعر، ومفرداته المشغولة من حب وقبل ورسائل غاضبة يوجهها الى أقرانه ومرادفيه من العاشقين والشعراء، المسكونين بالأمل، كوالت ويتمان وراقصة المعبد والطائر الغريب، كما لا ينسى الألف الثالث الجديد، الذي أطل في الأفق، غامضاً، حيياً، غاصاً بالمفاجآت. يوجهها الى النمل الصبور الذي يصعد من العتمة الى آخر النفق، ليرتاد ضوءاً شاحباً لكنه ضوء يشيع الحياة، والى الطفل المتأتئ في حضن أمه، والثمل الواقف على حافة الفجر. يغني بندر، بدل أن يستبطن ويتقمص موضوعته الشعرية، للحرية المصادرة في عهد الديكتاتوريات والعقوبات الذكية والايدز والحروب الالكترونية وتورا بورا، ويلتفت بقوة الى دراما الحاضر، حيث أصبح الماضي طفولة منسية ومهملة، لم تعد بقادرة على مواجهة ليلها الفظ. لا يريد شيئاً غير مألوف في هذه الحياة، قهوة في الصباح الباكر وكتاباً ووسادة، ثم حديثاً من دون خوف وقبلة لاصقة في شارع المتحف الوطني. خبزه كفافه، شرط ان يمنح روعة الطيران والتحليق، كي ينفض جناحيه تاركاً بعض ريشه ونبضات قلبه. لكنه سرعان ما يجد روحه مصادرة، ملوثة، والشوارع غاصة بالنياشين والمواكب، وهو الضحية دائماً. يتمترس خلف قناع الرزانة والحكمة، قامعاً الطفل الذي في داخله، قانعاً بما وصل اليه، أليس لكل عصر ضحاياه؟ ذلك الطفل الذي هو قرين الشعر والبراءة، لا يني يدندن أغنيته لنفسه، تحت جسور دمشق وفي حاناتها، وبين صفحات كتبها الممنوعة: نحن أبناء الرعاة الخرافيين/ والنساء البرونزيات/ كنا نعيش في الطبيعة/ بانسجام تام/ مع النسر والأفعى/ نقضم التفاح الوحشي/ ونلبس أوراق التوت/ بين الغابات الخيالية والكهوف/ ولكن دعاة الحرية/ خربوا حياتنا/ بالخطابات والقوانين. وصوته المرتبك والغاضب في الآن ذاته، تتخلله هواجس سياسية حادة، تخرج عن اطار الوطن لتعانق حياة الكائن البشري في أصقاع العالم. موقفه البريء والساذج، وتفاؤليته في الحياة، ملوثة دائماً بثقل السياسي رافع الشعارات، وهيمنته. ذلك السياسي، سواء كان محلياً أو دولياً، المصدّر للموت، القادر على تحويل الفرد الى نملة، صار تاجر سلاح أو سمساراً أو هتلر صغيراً، لا يترك خلفه سوى الخراب. والشاعر يستنبت لنفسه زهرة من ذلك الخراب، يسقيها بالبراءة وقليلاً من التمرد والأمل. والبراءة في شعر بندر تتجاوز هموم الوطن وفرده، على رغم انها تنظر اليه بدقة ووعي، لتعانق الهموم الكونية برؤية تتسع لبشاعات العالم مثلما لجمالياته، إذ ان الهموم الانسانية واحدة، على رغم اختلاف اللغات وتباين الثقافات. ففي رسالته الى والت ويتمان يخبر شاعر أميركا الكبير ان لا شيء تغير منذ رحيله، فالعشاق ظلوا عشاقاً، والفرق بين الصداقة والحب قبلة طويلة، والديناميت بقي كما هو، سيد العالم في هذه اللحظة من التاريخ، ومنذ زمن طويل لم تر العيون على شاشات التلفزيون وردة في فوهة مدفع، وليس ثمة كلمات تكفي للاعتذار من كل الضحايا عن المآسي التي ازدهرت بعد اختراع الديناميت والبارود والمقصلة. لقد فسد الهواء والأنهار والجبال والبحيرات والغابات، والبشرية محاصرة بالعنصرية والتعذيب وسباق التسلح والمفاعلات النووية. الحرائق تضيء الليل، والكتّاب الارهابيون يعربدون وينتظرون العشاء الراقص مع الغانيات. والبحر الأبيض الحزين يحتضن المدن المنكوبة منذ خمسة آلاف عام. والشاعر، على رغم انه الضحية التي تستكين الى مآسيها الا انه يضع نفسه شاهداً على ما يراه ويعيشه. لكنه شاهد لا يمتلك سوى الكلمات. فما الذي يعمله كائن أعزل، ليس في جعبته الا كلمات خائفة؟ وهل يغير الشعر عجينة الوجود هذه؟ في رسالته الى والت يتمان يرفع بندر من أعماق الظلمة الوجودية، له وللإنسان البسيط، أمله راية ويذر بعض النور في نهاية النقق، فالدروب ليست مغلقة كلها: لن أقول لك/ ان حياتنا جحيم لا يطاق/ فما يزال فيها الحلم/ وجنون الحب والفن/ والتضحية والصدق والصداقة/ والابداع والشوق، الى الأحبة والغرباء/ الى الحرية والطبيعة. انها إذاً تلك الأرض الصغيرة التي تشبه كرة مثقوبة، تلك التي يغنيها بندر، الكرة التي يقذفها طفل متوحش فوق أوراق العشب المحترقة. وما دام حوار بندر عبدالحميد من طرف واحد فلا بد ان يجيء صوته الشعري مباشراً، وغنائياً ومنفلتاً من قيد الشعرية المتوارثة. يصف ويصدر حكماً ويجمع الأدلة كي يتهم. يشير الى الأشياء بأسمائها. لا يلغز، ولا يكنّي، بل يسمّي، عامداً، هموم نفسه وهموم أقرانه، علّ واحداً منهم يسمع غناءه، ويتصل به كي يشاركه حفلة هذه الألفية الجديدة. الحفلة التي تديرها ساحرات غوتة، على واحد من جبال المانيا: ونحن ننتظر المطر/ لم نزرع شجرة/ لم نبن كوخاً/ كنا مشغولين دائماً/ بالتوازن مع الرعب. الرعب وعزلة الشاعر الخانقة يخترقهما صوته وهو ينادي كل محبي العالم، وكل متوحديه ومدعوسيه، كي ينشدوا صوتاً واحداً له طابع أممي، لكنه بعيد عن أي مضمون سياسي. انها أممية الحب والسلام ونبل الكائنات التي تشترك في الجوقة الانسانية المنشدة: في احدى القارات/ على رصيف ما/ انسان يشبهني/ فلاح أصفر/ أو شاعر برونزي/ أو صياد من الاسكيمو/ أو قبطان أبيض/ مولع باكتشاف أعالي البحار/ أو عاشق لاتيني متطرف/ في الحب والحرية والصمت/ ربما كانوا ثلاثة/ أو سبعة/ أو عشرة ملايين/ يشبهونني جداً/ ولكنهم لا يتصلون بي/ على الرقم السري/ 4449567/ ليلاً نهاراً. يختلط صوت بندر بصوت مغني الروح الكبير والت ويتمان، صاحب اللحية الثلجية، الذي رأى الكرة الأرضية من قمة التسامح والبوح والحب، ومع صوت نيرودا وهو يعبر جبال شيلي هارباً من جلاديه، وفي جعبته قصائده المصنوعة من حبات ذرة وراحات فلاحي القصب، ورائحة زيوت المصانع، وموسيقى فيكتور جارا الذي دفع أصابعه ثمناً لأغنية صادرة من القلب. كما يأتيه محمد الماغوط مرتدياً جفاء الأرصفة، وأحزان بردى ولوعة الفرد المحكوم بحرية غالية الثمن. وهو صوت الإنسان الضاحك الحر، الصعلوك الملكي في الزمن البائس، زمن تقارير الأمن وأحذية الشرطة ومعسكرات التعذيب وخنق طلاقة الفرد وعفويته. الإنسان الذي يمشي في حقل ألغام، ومع ذلك يريد ان يرقص ويغني ويسير مغمض العينين الى حبيبة، أو الى حفلة راقصة أو الى وردة بعينها يهديها الى العشيقة. ومن هنا أيضاً تكتسي قصائد بندر الاثنتا عشرة بلفاعها الدرامي، وتكتسب نبضها التراجيدي العال، لإنسان محكوم بالعزلة والتمتمة، بعد أن أجبر على بلع لسانه مرة فمرة فمرات، وصار يهمزه توق عارم كي يطلق لحنجرته العنان. يبتدئ بندر ديوانه بالطفولة والبراءة: وهو مسكون بهما، يتلمس عبرهما تضاريس المكان والزمان، وينتهي بهما، خشبة خلاص وملاذاً: قشر البيضة يتكسر/ في العش الهادئ/ ويطل الفنان/ الطفل المسحور/ ابن الموسيقى المجنون/ العصفور. وما بين طفولتين يعبر الزمن الحاضر، زمن الصحف والاذاعات والمحاضرات الرديئة والأغاني الوطنية المعلبة، والانتصارات الوهمية للجزارين المحترفين. يعبر الحاضر مثل غيمة بعيدة، ينظر اليها الشاعر بحزن وصمت.