حين نفكّر بالنُصُب نفكّر بالتاريخ والمعارك والانجازات المستحيلة. نفكّر بالسيمفونيات الكبرى والقادة. بالانتصارات والكوارث. فلا أحد يحب تدمير المنحوتات الكبرى ل"أبطال" فرضوا أنفسهم، في هذا المنعطف التاريخي أو ذاك، علينا. لكن ما دمنا لا نستطيع، في زمن حداثتنا، أن نعلن حقيقةً من دون أن نستثير نقيضها، فإن النُصب تُقلقنا. تُقلقنا "نحن"، أي الذين لن تُقام لهم نُصب. على أن أولئك الذين سيُخلّدون بالبرونز أو بمادة أبدية أخرى، من النادر أن يقاوموا الخلود. مع هذا فالحكم لا يصحّ عليهم كلهم. أو على الأقل هذا ما صار ممكناً قوله بعدما رفض أحدهم، الكاتب الألماني غونتر غراس، إقامة نُصُب له في مدينة غدانسك حيث وُلد. والقصة هي التالية: لقد أراد سكان غدانسك أن يحتفلوا بكاتبهم الكبير الذي يعود اليهم في أصوله، والذي نال جائزة نوبل. فهم بإقامتهم لغونتر غراس نُصُباً في وسطهم، لهم ولأجيال سوف تأتي، وبسؤالهم له أن يأتي ويرفع الستار تدشيناً للنُصُب ذاك، شعروا بأنهم يعطون الرجل الكبير حقه. لكن غراس رجلٌ ليومنا هذا، رجلٌ طوّر قناعاته تبعاً لعذابات الحرب العالمية الثانية وعصور أوروبا الحديثة والمظلمة في آن. فهو شبّ في مبنى متواضع ونمطي في مدينة لم تنهض حتى اليوم من ركام تناقضاتها. وهي مدينة من أوروبا التي أدركت، في أكثر لحظاتها صفاءً، أن الأبطال يمكن أن يكونوا خطيرين، كما أن ذاكراتهم تترك دوماً نكهة كريهة في الحلق. وهم تعلموا بألم ٍانه كلما علت النُصُب غدت المسافة أبعد عن المثالات الديموقراطية. هكذا شب غراس في هذا المبنى المتواضع الذي لا يزال مأهولاً بعائلات متواضعة، هي الأخرى، في غدانسك. فإذا بالشقق التي في مبنى غونتر غراس الطفل، بلا مراحيض، يتشارك سكانها في مراحيض قذرة تقع خارج بيوتهم. ولا يزال سكان هذا المبنى يغادرونه كلما أرادوا قضاء حاجتهم، وغالباً ما يحصل هذا في طقس بالغ البرد والقسوة. ولأن الأديب الألماني كانت ذاكرته محكومة بحوافز أخرى، اعتذر من منظّمي المشروع في المدينة البحرية رافضاً تلبية دعوتهم: لقد أراد إنفاق الأموال المخصصة لتخليده بالبرونز على بناء بيوت خلاء لشقق البناية. كيف يمكن للمرء ألاّ يحب غونتر غراس بسبب بادرته الجيدة والانسانية هذه؟ إلا أننا ما دمنا حديثين لا بد أن نستدرك ونرى الأمور على قدر أكبر من التعقيد. فكيف لنا أن نتصوّر العالم، عالمنا، من دون رخام اليونان أو برج إيفل أو أهرامات مصر؟ كيف يمكننا أن نتواصل عبر القارات والأزمنة من دون رموز هي تلك الذاكرات الجماعية النُصُبية؟ فهي، بعد كل حساب، كبيرة ومرتفعة، وهذا ما يجعلها قابلة للانقشاع والرؤية من كثيرين ومن ناظرين عن بُعد قارات. لقد وقفت هذه النصب مديداً وعبر الأزمنة حتى غدا الناس يتعرفون فيها على ماضيهم ويرون إليها بصفتها تاريخهم. فهل نستطيع تخيّل ساحة ترافلغار من دون نُصُب نلسون، وهل نكون مكترثين بمعارك نلسون الرهيبة حين نقول لأصدقاء يزورون لندن أننا سنلتقي في ساحة ترافلغار؟ ثم، ألا تنقش النصب التذكارية التي تصوّر ضحايا المذابح درساً بصرياً مفاده: أبداً لن يحصل هذا ثانيةً؟ لكننا نعود إلى غونتر غراس ونزعه الأسطَرة عما هو نُصبي. وهل هناك نزع للأسطرة أكثر من هذه المطالبة الوظيفية و"الدونية" بالمراحيض محل الاحتفال المهيب بإنجاز أدبي؟. فغراس، بذلك، يستأنف تقليداً ربما كان شكسبير من بدأه: "وأنتم في هذا ستجدون نُصبكم حينما تتبدّد مهود الطغاة ولحودهم المصنوعة من نحاس". وربما كان مارسيل دوشان أو كلاوس أولدنبرغ من توّجا هذا التقليد بسخرية أكبر في منحوتتيهما الشهيرتين للمتبوّل الجالس وللهمبرغر. أما إذا تُرك الأمر لخياري الشخصي، فلن أتردد في توجيه التحية للرجل الذي آثر المراحيض في هذه الحياة على مجد مجرّد في الأبدية.