في الوقت الذي فقدت «جدة» ظلها في نهارٍ دامسٍ، أُدخل الزعيم/ «نيلسون مانديلاَّ» -ونسمّيه «ظل التاريخ»- المستشفى لإجراء فحوص روتينية؛ كما قال المصدر الرسمي، وهل هناك أقتل من «الروتين»؛ حتى نكملها بفحوصه؟ حين كنا صغارًا، كان أهلنا يتسلّون بنا، فيطلبون منا أن نمسك ظلالنا! يغروننا فنلهث خلفها دون فائدة! حتى اختفت «أم كلثوم» ورفاقها؛ مردِّدين: «وَعَدَوْنَا فسبقنا ظلنا»! وما أصدقهم إذ مضوا ومازالت ظلالهم بيننا! وكبرنا نحن، وصرنا نثأر من آبائنا بالتسلية بأبنائنا! بينما استمر التاريخ يحاول الإمساك بظله/ «نيلسون مانديلا»، دون يأسٍ؛ حتى اضطر أخيرًا إلى ما توصل إليه أذكانا؛ حين يلقي بنفسه على ظله، ويصيح ملتصقاً بالأرض: أمسكتُ به، هيّا... الجائزة قبل أن يهرب! فيلتفُّ آباؤنا على وعودهم ضاحكين: لا.. لا.. لابد أن تحضره أنت إلينا! ليضطر المسكين للزحف على بطنه حتى يبلغهم، وهو بين أمرين: إمّا أن ينهض ليستلم الجائزة فيهرب ظله من جديد! وإمّا أن يبقى منبطحًا عليه دون جائزة! وها هو التاريخ ينحني على ظله متشبثًا به، والعالم كله يطرق واجمًا خارج العناية المركزة، والظل يتبسم ابتسامته السمراء الساحرة، ويتمتم ببيت «عباس محمود العقاد»: خَلَعْتُ اسمي على الدنيا ورسمي فما أبكي: رحيلي؟ أم مُقامي؟ أجل يا سيدي «نيلسون»: ماذا بقي في الدنيا من تضحيةٍ لم تقدِّمها لوطنك، بل للإنسانية جميعًا؟ وماذا بقي في الدنيا من مكافأةٍ تقدمها لك؟ ضحّيت بالنفس، والزوجة، والولد، والأم، والكرامة الشخصية! وأصبحت حلمًا لكل زوجة، ورمزًا لكل ولد، وفخرًا لكل أم، وصار يوم ميلادك (18/7) يومًا عالميًّا أبديًّا للحريات الإنسانية! وها هم «زعماء» العالم يتسابقون لأخذ توقيعك، والتقاط صورة معك: هذا «بيل كلنتون» الذي كنت طوال عهده مصنّفًا إرهابيًّا، حتى وأنت تُنتخب رئيسًا لبلادك! وهذا «جيمي كارتر» الذي كان يدعم نظام الفصل العنصري بلا حدود، وأنت حبيس قضبانه البلهاء! ألا يخجلان؟ أمّا «بوش الأبوش» فيحق له أن يفخر بأن آخر قرار اتّخذه هو: إسقاط اسمك من قائمة الإرهاب! وهي مفخرته الثالثة، بعد تلافيه «فردتي» الحذاء العربي الشهير! لقد مزقتك الدنيا كل ممزَّقٍ، ثم أعادتك قطعةً قطعةً، ونَصَبتَك على جبل الخلود، وكتبت تحت قدميك: هذا رجلٌ قدَّم كل شيءٍ لوطنه دون أن يشترط مقابلاً! ولمّا أعطاه وطنه مقاليد كل شيءٍ، بذلها لكل شعبه ما عداه «هو»! فماذا بعد أيُّها الأسد الإفريقي العجوز؟ إنه الموت يا سيدي إذن! الموت يعني أن الدنيا لم تعد تتسع لعظمتك، وقد حملتك (92) عامًا، وهنًا على وهن، وآن لها أن تضع حملها، لتلتقطه سماءٌ طال شوقها لاحتضانك راضيًا مرضيًّا! هيا أيُّها التاريخ.. انهض عن ظلك واتركه يرحل.. وكلهم يرحل وظله يتبعه، إلاّ أنت: يرحل ظلك، وأنت.. أنت مَن يتبعه! ارحل يا سيدي؛ لعلهم يتعلّمون منك كيف يموتون؛ بعد أن فاتهم كيف يحيون! [email protected]