أصبحت القطيعة بين باتريك بوكانان، الساعي الى الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة، وقيادة هذا الحزب في حكم الحاصل، بما قد يستتبع ذلك من تجزئة للقاعدة الجمهورية الناخبة التي تعقَد عليها الآمال لانتزاع البيت الأبيض من الديموقراطيين. والمناسبة للتصعيد الذي شهده الأسبوعان الأخيران هي صدور كتاب بوكانان الجديد "جمهورية، لا امبراطورية" والذي يمكن اعتباره تأطيراً فكرياً للطرح الشعبوي الانطوائي الذي يثابر بوكانان على التزامه، منذ ان خاض معركته الأولى للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري عام 1992. فقد استفاد عدد من الجمهوريين البارزين من فرصة صدور هذا الكتاب لإبراز امتعاضهم من هذا التوجه السياسي والفكري الذي يعبر عنه بوكانان ويغذيه في صفوف حزبهم، وللإعراب عن عدم ثقتهم بشخصه وبآرائه التي غالباً ما تتجاوز الحدود المتعارف عليها ضمناً في الخطاب الساسي الاميركي، لا سيما تفريطه بمشاعر المجموعات الدينية والثقافية والعرقية. فلا يخفى على هذا الصعيد ان الغالبية العظمى من السياسيين في الولاياتالمتحدة تعتمد اسلوباً خطابياً توفيقياً استقطابياً ازاء هذه المجموعات. والدافع المعلن لهذا الأسلوب هو الاقرار بالتعددية وتأكيد المساواة في المجتمع الاميركي، في حين يرى بوكانان من جهته في هذا الاسلوب افراطاً نفاقياً يهدف الى ضمان اوسع قدر من التأييد الانتخابي وحسب. فعلى الخلاف من معظم السياسيين في الولاياتالمتحدة مثلاً، يقف بوكانان موقفاً معارضاً للتعددية الثقافية، على الأقل في شكلها السائد الذي يضع مؤسسات المجتمع الاميركي على الحياد إزاء مختلف الثقافات ويفترض المساواة المبدئية بينها، بل يدعو الى تحبيذ غير الغربي منها تصحيحاً للغبن التاريخي المفترض. فبوكانان يصرّ على ضرورة الجهر بتفضيل الموروث الحضاري الغربي اليهودي - المسيحي، والانكلوساكسوني تحديداً، وبترجمة هذا التفضيل حداً من الهجرة غير الأوروبية، لا سيما منها الاميركية اللاتينية، بما يضمن المحافظة على الهوية الثقافية للولايات المتحدة. ويشكل بوكانان مثالاً فكرياً اطلاقياً خارجاً عن النسبية او بالأحرى النسبوية التي تجذرت في الخطاب والفكر الاميركيين عبر المكاسب الفعلية التي حققتها حركات الحقوق المدنية في العقود الماضية، وعبر ترسخ اتجاه ما بعد الحداثة في الثقافة الاميركية. ولا يقتصر الخلاف بين الصيغة الفكرية التي يجسدها بوكانان والتوجه النسبوي السائد، على المضمون، بل يتعداه الى آداب الجدل والمناظرة نفسها. ففي حين يجتهد النسبويون في تجنب العبارات التي قد يساء فهمها على انها تسفيه او تعرض لمجموعة ثقافية او عرقية ما، ويعتمدون لغة تحفل بالإطراء حيناً والتكلف احياناً، كما تحد في الواقع من انسيابية الخطاب الفكري، فإن بوكانان لا يؤرقه استعماله المتكرر للصور النمطية، لا سيما اذا كان لهذا الاستعمال فائدة خطابية. فعلى سبيل المثال، لجأ بوكانان لتنديد بنفوذ المصارف الكبرى الى سرد اسمائها عبر اختيار تلك الاسماء التي تكشف عن ملكية متمولين يهود لها، في ما اعتبره خصومه محاولة لإيقاظ الميول المعادية للسامية، اي العداء العنصري لليهود، وهي من اشد المحرمات في الحياة السياسية الاميركية التي رافقت بوكانان منذ بدء نشاطه الانتخابي. وفي حين ان بوكانان بالفعل تجاوز في بعض اشاراته لليهود الحدود المقبولة في الخطاب السياسي الاميركي، فإنه، في الواقع لم يوفر ايا من المجموعات الثقافية والعرقية في الولاياتالمتحدة وخارجها من اسلوبه الكلامي اللاذع. ثم ان بعض متهميه يصنفون في خانة العداء للسامية انتقاده السياسة الاسرائيلية، ودعوته الى الحد من المساعدات الباهظة التي تحصل عليها اسرائيل سنوياً من الولاياتالمتحدة. وقد استفاد خصوم بوكانان في الحزب الجمهوري من فرصة صدور كتابه لإحراجه وربما لإخراجه من الحزب، عبر التلويح بأن الافكار التي يعتنقها خارجة عن الاجماع الوطني، والتلميح مجدداً بان طروحاته تنطوي على عداء مبطن للسامية، وذلك عبر تصوير كتابه بأنه دفاع عن هتلر ونقد لاعلان الولاياتالمتحدة وسائر الغرب الحرب عليه. فقد تكررت المواقف الصادرة عن الشخصيات الجمهورية التي تندد ببوكانان، وتدعو الى تهميشه، وصولاً الى موقف جون ماكين، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا والساعي الى الحصول على ترشيح حزبه للانتخابات الرئاسية المقبلة، والذي تمنى ان يغادر بوكانان الحزب. وحده جورج دبليو بوش، حاكم ولاية تكساس والمرشح الرئاسي المرجح عن الحزب الجمهوري، فضّل اللهجة التوفيقية، فأعرب في الوقت ذاته عن معارضته للأفكار التي طرحها بوكانان وعن تمنيه ان يبقى هذا الأخير في صفوف الحزب الجمهوري. ولكن، في ما يتعدى الاستهلاك السياسي لكتاب "جمهورية، لا امبراطورية"، فإن الآراء التي يحويها هذا الكتاب تتمحور حول المستقبل كما يراه بوكانان اكثر منها حول الماضي. ففي موضوع هتلر، وخلافاً للإيحاءات المعادية، لا يتضمن الكتاب اية مراجعة تاريخية تأهيلية، بل ان بوكانان يعمد الى استعراض النتائج التي كان بالامكان ان تترتب على سلوك الولاياتالمتحدة والغرب مسلكاً مختلفاً في التعاطي معه. فبوكانان يرى انه لو امتنعت بريطانيا وفرنسا عن منح بولونيا وعدا بالدفاع عنها، لما اضطرتا الى دخول الحرب اثر الاجتياح النازي لها. وذلك ما كان ادى بدوره الى انشغال هتلر بمحاربة الاتحاد السوفياتي. وهذه المقارعة بين ستالين وهتلر كان من شأنها ان تنهك النظامين النازي والشيوعي، وأن تنقذ الدول الغربية الديموقراطية من الدمار، وتجنب العالم المآسي التي تسببت بها الأنظمة الشمولية في مرحلة ما بعد الحرب. وغرض بوكانان من هذا الاستعراض النقدي ليس مجرد التحليل التاريخي، بل التقدم بطرح مبدئي بديل لأحد اهم التطورات في الفكر السياسي على أبواب القرن الواحد والعشرين، اي مفهوم "الحرب العادلة" الذي يلزم الدول القادرة على التدخل في الاضطرابات الواقعة خارج حدودها، في حال حصول انتهاكات واضحة لحقوق الافراد والجماعات، وهو المفهوم الذي استعمل لتأطير حرب تحرير الكويت، والتدخل في البلقان، ومؤخراً في تيمور الشرقية. ويصر بوكانان على ان نفوره من هذا المفهوم ليس عائداً الى انطوائية متعامية عن الأذى اللاحق بالغير، بل الى ان الآليات التي يجري تطويرها في سبيل تطبيقه تشكل العمود الفقري لنظام عالمي جديد تتآكل معه السيادة الوطنية. وأخطر هذه الآليات، في رأي بوكانان، نشوء منظومة قضائية دولية نافذة غير خاضعة للرقابة الانتخابية المحلية. وفي حين يوافق بوكانان على ان تبلور هذه المنظومة، وسيرها في الاتجاه الى اعتماد المجازاة القضائية الدولية لجرائم الحرب بدلاً من التسويات السياسية، هو نتيجة للعولمة، فإنه يعتبر ان العامل المحرك، ان لم يكن الوحيد، للعولمة التي تتحقق اليوم هو نفوذ الشركات الكبرى المتعددة الجنسية. فهذه الشركات، من وجهة نظره، تمكنت بالفعل من السيطرة على الولاياتالمتحدة عبر تقويضها صدقية النظام الانتخابي فيها وفرض نفوذها على الحزبين، وهي اليوم توظف موقعها هذا لتحقيق استقلاليتها عبر نظام عالمي جديد. وهذه الشركات، بحكم هويتها المتعددة الجنسية، لا يعنيها مستقبل الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص، بل هي، ولتحقيق مصالحها، قد تدفع الحكومة الاميركية الى التورط بمختلف الصراعات في انحاء العالم، تحت ذريعة "الحرب العادلة"، ما قد يؤدي الى تآكل القوة الاميركية. ولا يكتفي بوكانان بحجة المصلحة الوطنية الاميركية، بل يستعمل التجربة التاريخية للتعاطي الاميركي والغربي مع النازية والشيوعية، للتأكيد على أن الاسراع في التورط في الحروب التي لا تهدد أمن الولاياتالمتحدة ليس تطبيقا ساذجا لمبدأ الحرب العادلة وحسب، بل من شأنه ان يؤدي الى النتائج العكسية. ويعيد بوكانان قراءة التاريخ الاميركي منذ الاستقلال من منظور التمييز بين خطين، الخط "التدخلي Interventionist المنشغل بالحروب الخارجية والسعي الى انشاء "امبراطورية"، والخط الوطني والذي يسميه خصومه بالانعزالي Isolationist أو الحمائي Protectionist، وهو الخط الذي يغلّب مصلحة الولاياتالمتحدة ويضعها فوق كل اعتبار. وينشط بوكانان في اتجاهين لتأكيد صواب نهج الخط الوطني، مشيراً الى انه الأصلح للولايات المتحدة ولغيرها على حد سواء، من جهة، والأكثر انسجاماً مع القيم المبدئية الراسخة في ثقافتها، اي الحرية والاستقلال لها ولغيرها، من جهة اخرى. ويشير بوكانان الى خشيته من ان من شأن الاستفاضة الاميركية في التعهد بالدفاع عن مختلف الدول، من الخليج والشرق الأوسط الى شرق آسيا وأوروبا والبلقان، ان يبدد القدرات الاميركية تدريجياً، ولكنه ايضاً، انطلاقاً من الاستقراء التاريخي، سوف يؤدي لا محالة الى مواجهة كبرى يخشى بوكانان ان تكون مع روسيا ذات القدرات النووية الفتاكة. فلتجنب هذا المصير المحتوم، يدعو بوكانان الولاياتالمتحدة الى التراجع عن الدور القيادي في المنظومة الدولية، وضمناً الى تقويض العولمة الناجمة عن هذا الدور. وأهمية كتاب بوكانان لا تكمن في اسلوبه في التحليل التاريخي، وهو في الواقع اسلوب جدالي انتقائي وتبسيطي، بل في تجسيد هذا الكتاب لآراء عدد واسع من الاميركيين، البعض منهم ينتمي الى هذا الاتجاه نتيجة اعتناقه افكاراً مستوحاة من ادبيات الأمس اليسارية واليمينية على حد سواء من العداء للإمبريالية الاميركية الى الانطوائية المجردة التي تتجاهل ما ليس اميركياً. غير ان غالبية المنتمين الى هذا الاتجاه هم من الذين تضرروا مما تحقق من العولمة، لا سيما في الأوساط العمالية، او الذين لم تتوفر لهم فرص الاستفادة منها. وسواء تحقق انسحاب بوكانان من الحزب الجمهوري، وهو الراجح، ام لا، فإن الحزب لم يعد يشكل الاطار المعبر عن مصالح العديد من الناخبين المؤيدين له. وكذلك حال الحزب الديموقراطي. وبوكانان يعمل جاهداً على تأطير هؤلاء المهمَلين فكرياً، وربما الاستفادة منهم انتخابياً.