عندما تدخلها للمرة الأولى، تلاحظ كثافة أعداد الداخلين والخارجين، وتنوع مشاربهم وثقافاتهم. أقسامها كثيرة ومتنوعة، بين الأدب والإعلام والتاريخ والجغرافيا والمكتبات والآثار والعلوم الانسانية، وزوارها أكثر، الى درجة ان طلابها لا يستطيعون التمييز بين زملائهم والزوار. مقاصفها مزدحمة أكثر من مدرجاتها، وحفلات تعارفها تستقبل أضعاف ما تستقبل محاضراتها، وحسناواتها أكثر من "الهم على القلب". انها كلية الآداب والعلوم الانسانية في جامعة دمشق، طقوسها مختلفة، وعلاقاتها الاجتماعية منفتحة ومغلقة بآن، طلابها من مختلف الأعمار، وإذا كان الداخل اليها من الخريجيين القدامى، فلا بد وأن يلتقي بأحد زملائه الذي ما زال يناضل كي يحصل على "الليسانس"، ويطلقون عليهم وهم ليسوا بالقليلين "المحاربين القدامى". مشاكل طلابها وأحاديثهم متنوعة، وتجمعاتهم في أغلب الأحيان لها طابع تخصصي، فأصحاب الآراء الثقافية المشتركة أو الميول الأدبية الواحدة، يشكلون ما يشبه التجمعات، فتجد التجمعات الثقافية والتجمعات المسرحية والشعرية وغيرها، وتنتشر النشاطات الأدبية في شكل ملحوظ، متفرقة ما بين المسرح الجامعي، واحياء الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية التي تنم عن وعي ثقافي لدى الطلاب. ولعل اللافت هو الزاوية التي تقبع فيها مجلة "فكر السنابل" وهي عبارة عن مجلة حائط تصدر كل خمسة عشر يوماً تقريباً في شكل مواظب، وقد أسسها منذ أربع سنوات "محمود الرجلة" وهو أحد طلاب قسم اللغة العربية وتعهدها مادياً وتحريرياً، ولا تزال حتى هذه اللحظة تحافظ على صدورها، وتنشر ابداعات الأدباء الشباب من داخل الكلية وخارجها، وتحافظ على كثافة قرائها الذين تجدهم واقفين أمامها، وهي تنشر الشعر والخاطرة والقصة القصيرة والمقال وغيرها من فنون الأدب، والتي تعتبر خطوة جريئة ومميزة لها جمهورها ومتابعوها. ولا بد أن نذكر هنا أن كلية الآداب قد أخرجت الى النور أجيالاً من المثقفين والشعراء والكتّاب والفنانين الذين يرفدون الساحة الثقافية العربية بالكثير من المنتوج الإبداعي وعلى رأسهم المرحوم فواز عيد، وعلي كنعان، وممدوح عدوان، وفايز خضور وشوقي بغدادي، وعلي الجندي وغيرهم الكثير. ومن الأشخاص الذين يستحيل أن نتخطاهم، بائع الجرائد الذي أصبح معلماً من معالم الكلية، والذي يتمتع بشعبية كبيرة من جانب الطلاب، وقد بدأ ممارسة مهنته كبائع جرائد في الكلية منذ أكثر من عقدين من الزمان، وهو يعرف خريجيها القدامى الذين يكنون له الاحترام ويصافحونه بحنين، والأعجب من ذلك أنه يتذكرهم بأسمائهم وأقسامهم التي تخرجوا فيها، ولعل أكثر ما يجعله مميزاً جملته المشهورة لبيع الجرائد "سيرين تايمز" والتي أصبحت لقباًَ له وتقليداً مميزاً له حضوره. مشاكل طلابها متنوعة وكثيرة، يندرج أغلبها تحت عنوان المستقبل المفقود والذي يعود في جرئه الأكبر الى عدم التزام الدولة بتأمين وظائف للخريجين، ما يحدوا بهم الى الجلوس في البيت بعد التخرج، أو العمل بأي شيء مهما كانت ظروفه واقتناص أي فرصة للسفر حتى وان كانت بأقل الامتيازات، أضف الى ذلك ما تتطلبه الحياة الجامعية نفسها من التزامات مادية تبدأ بالكتاب الجامعي، مروراً بتأمين السكن والطعام والملبس، وانتهاء بفنجان القهوة الصباحي مع رفيقة المستقبل، والتي يفضل الكثير من الشباب أن تكون من الطبقة المرتاحة مادياً لكي تساعد على شق عباب الحياة. فبمجرد ان تكون أحد طلاب كلية الآداب، فلا بد وأن يكون للحياة العاطفية مع الجنس الآخر جزء كبير، وحيز رئيس من حياتك، وهذا لا يعود الى جمال الفتيات من حولك فقط، وانما لطبيعة الشباب الذي يدرس المجالات الأدبية، والذي غالباً ما يكون أجمح عاطفة من بقية طلاب الكليات العلمية، وعلى رغم ذلك فالنجاح في تلك التجارب ضئيل، وغالباً ما تنتهي تلك العلاقات بالفشل مخلفة وراءها تجارب انسانية ترفد مسيرة الحياة. ويعود سبب فشل العلاقات العاطفية في أغلب الأحيان الى اختلاف الثقافات والأصول والطبقات الاجتماعية والفروق المادية واختلاف العادات إضافة الى ظروف الحياة الصعبة. ومع ذلك تظل كلية الآداب هي الكلية الوحيدة تقريباً، التي يعيش فيها الطالب الحياة الجامعية بكل نواحيها، وتظل هي الرافد الأساسي للطبقة الوسطى التي تؤدي الدور الأهم في نهوض المجتمع الثقافي والفني والتربوي، فيما يظل طلابها يترنحون بين أحلام وطموحات كبيرة، وواقع لا يبشر بانفراج قريب، مشتتين بين متابعة الدراسة للحصول على شهادة لا تغني من جوع، ومستقبل مجهول، وبين تأمين مستلزمات الحياة.