تخصص في الدول المتقدمة للأطفال في السنوات الأولى من أعمارهم غرة مملوءة بألعاب، يختارون منها ما يرغبون فيه ليحدد القيمون على تربيتهم كيفية توجيههم في حياتهم العلمية، ومساعدتهم على اختيار ما يحلمون بتحقيقه في الحياة. سارة ابنة الأربع سنوات تحلم بأن تصبح طبيبة فتعالج آلام الناس. هذا الحلم الذي يصعب تحديد إمكان تحقيقه في حياة سارة يصفه طوني أبو سليمان الخريج الحديث من إحدى الجامعات الخاصة قسم السمعي والبصري بالحلم المستحيل "لم اكن احلم يوماً بأن امتهن ما تخصصت به، لطالما رغبت بمهنة التنقيب عن البترول، إلا أنه حلم صعب المنال نظراً الى افتقار لبنان لهذا النوع من العمل ولغياب هذه المادة من المناهج الجامعية". بين التنقيب عن البترول ووظيفة المونتاج في إحدى المؤسسات الإعلامية خمس وعشرون سنة من الجد والتعب والاحباطات، لم يكن طوني يعرف عنها شيئاً أيام الطفولة والأحلام "كنت أتصور أن الأحلام قريبة المنال وان ما اخطط له سيتحقق يوماً، إلا أن الواقع أثبت لي عكس ذلك، لست نادماً على عدم مثابرتي على تحقيق حلمي لأنه صعب المنال فعلاً، والمهم برأيي أن نحلم لنحقق شيئاً ما في الحياة وأنا حالياً سعيد بمهنتي الجديدة". مع بداية كل عام دراسي يتوجه نحو مليون طالب إلى الصفوف منهم رميال في الصف التمهيدي الثاني وهي تكره المدرسة كرهاً شديداً وتحلم بأن تختفي المدارس والمعلمون عن الوجود وان تصبح سيدة منزل "فقط لا غير"، وهو حلم تتقاسمه مع محمد شبارو خريج كلية الحقوق الذي تخرج عاطلاً من العمل بحسب قوله "اختياري لكلية الحقوق كان عن سابق إصرار وتصميم، كنت مغرماً منذ الصغر بلباس المحامين والقضاة، إلا أن ما أواجهه بعد تخرجي من صعوبات في الحصول على مقعد لدى أي مكتب محاماة للتدرج، جعلني أشعر بالقرف". تختلف الأحلام والطموحات بين طلاب المدارس والجامعات الرسمية وطلاب المؤسسات الخاصة، ففي وقت يجهد فيه طلاب القطاع الرسمي إلى تحقيق النجاح محملين بأحلام غالباً ما تتحطم لدى تخرجهم لأسباب تتعلق بطبيعة المناهج الدراسية القديمة غير المواكبة لتطورات العصر وتقنيته، وعدم إجادتهم اللغات الأجنبية التي تساعدهم في اكتساب بعض المهارات وإيجاد فرص عمل جيدة، وبين طلاب القطاع الخاص المسلحين بمهارات عدة كاللغات والكومبيوتر وغيرها ما يعبد الطريق أمامهم ويساعدهم في تحقيق طموحهم. وهو أمر أوضحه بشار داود خريج الجامعة اللبنانية قسم إدارة الأعمال والذي استطاع الحصول على فرصة عمل ولكن ليس كزميله سعيد جزيني خريج الجامعة الأميركية في القسم نفسه فقال: "دخلت وزميلي إلى العمل في الوقت نفسه إلا أن راتبه وموقعه في العمل افضل بكثير وهذا طبيعي بالنسبة إلي، لأنه متمكن من اللغة الأجنبية اكثر ولديه خبرة واسعة في مجال المعلوماتية". يستدل من إحصاءات العام الماضي أن التعليم الخاص خسر ما مجموعه 11863 طالباً لمصلحة التعليم الرسمي الذي سجل زيادة مقدارها 11586 طالباً. وفي ظل هذا الإقبال الطوعي أحياناً والقسري غالباً على المدرسة الرسمية، لا تبدي هذه الأخيرة قدرة على استعادة مكانتها ومواجهة تحدي تطبيق المناهج الجديدة، على رغم أنها سجلت نسب نجاح عالية في السنوات الأخيرة في امتحانات الشهادات الرسمية، ما يسبب إحباطات متتالية لخريجي هذا القطاع. سوسن حيدر طالبة في السنة الأخيرة معلوماتية - الجامعة اللبنانية لا تتذكر يومها الأول في المدرسة الاّ انها تجزم ان اختصاصها الحالي لم يكن ما قررته منذ بداية طريقها العلمي "في صغري كنت مولعة جداً بالرياضة، ولطالما أردت ان اصبح معلمة رياضة، ولاحقاً احببت كل ما له علاقة بالرسم، الا انني اخترت اخيراً اختصاصاً عملياً يمكنني من ايجاد فرصة عمل محترمة بسرعة". تنحصر المنافسة بين القطاعين الخاص والعام في مجال الكومبيوتر لحداثة هذا الاختصاص الاّ ان ما يصدم خريجيه عدم مطابقة الواقع للهالة المفروضة حول سرعة الحصول على عمل "كان اعتقادي انني سأحصل على عمل بسرعة ولن اعاني ما يعانيه زملائي في بقية الاختصاصات، الا ان السوق متخم بالخريجين في هذا المجال، والفرصة الجيدة لا يحصل عليها الا المتميزين فعلاً، وانا حالياً اخضع لتدريب في احدى الشركات التي تفكر بتوظيفي، بينما اعتقادي كان ان احصل على الوظيفة". يقول محمد عبدالله ست سنوات ان المدرسة "عالم قبيح"، فيرد والده بالقول: "ان الدنيا عالم اقبح ، وما المدرسة الا لحمايتك من قباحته". سؤال حملناه الى المتخرجين هذا العام فقالت سوسن: "اظن ان المدرسة والجامعة عالم جميل جداً والقبح ما سنتعرض له عندما نغادر ابواب جامعتنا". بينما كان صلاح عياد خريج الصيدلة اكثر تفاؤلاً بالقول: "لكل فترة من العمر جمالها، لا اتصور ان ابقى في الجامعة اكثر من الوقت الذي امضيته فيها، المهم ان أحدد طريقي في المستقبل، وهذه متعة لا توفرها لي الجامعة وبكل الأحوال انا غير متفاجىء بما يدور حولي لأنني ابن هذه البيئة وكنت اعرف جيداً ما ينتظرني". وفي نظر ربيع عفيفي خريج الهندسة المعمارية الجامعة العربية فإن القبح يتمثل بترك لبنان "لم اكن اتوقع يوماً ان اغادر لبنان للعمل في مكان آخر، كنت اتصور ان يكون لي مكان ما محجوز لأعمل فيه، الا ان الواقع في الحقيقة صدمني للغاية، تخرجت العام الماضي ولم انجح بالحصول على فرصة، ما دفعني الى الهجرة على رغم كرهي لها، الواضح ان لبنان ضيق على ابنائه فعلاً".