إن لم يكن العرب سباقين الى ابتكار المعاجم اللغوية بعدما سبقهم في هذا المضمار الأشوريون والصينيون والهنود والاغريق فهم سبقوا الأوروبيين في العصور الوسيطة الى وضع المعاجم واتقان فنّ التجميع والتفسير والشرح. ويرجع أوّل معجم عربي الى القرن الثامن ميلادياً فيما تم وضع أوّل معجم أوروبي في القرن السابع عشر. مثل هذه الوقائع باتت معروفة وشائعة في معظم الكتب التي تؤرّخ الحركة المعجمية العربية وتدلّ، في ما تدلّ، على عراقة العرب في التأليف المعجمي. وقد بدأت مرحلة التأليف الأولى - على ما يجمع المؤرخون - منذ أواخر القرن الأول الهجري وتواصلت زهاء مئة عام، حتى أواخر القرن الثاني للهجرة. ولعلّ ازدهار المكتبة العربية التراثية بالمعاجم المختلفة يؤكّد مدى انكباب العلماء العرب على هذا الصنيع اللغويّ أولاً وغنى اللغة العربية، المتعدّدة اللهجات والمشارب، بالمفردات ومعانيها، ثانياً. وعلى رغم اصرار العرب على صون لغتهم وتنقيتها وترتيبها فإنّ "الكثير من كلام العرب قد درس" بحسب عبارة الكسائي. ويدعم ابن العلاء هذه العبارة قائلاً: "ما انتهى اليكم ممّا قالت العرب إلا أقلّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير". إلا أنّ ما ضمّته المعاجم العريقة من موادّ كان خير شاهد على ثراء اللغة العربية وهو ثراء اقتضاه تعدّد القبائل العربية ولهجاتها واختلاف الثقافات التي عرفتها الحضارة العربية عبر انتقالها من طور الى آخر. ضمّ معجم "الصحاح" للجوهري مثلاً قرابة أربعين ألف مادة مشروحة وحوى "القاموس المحيط" للفيروزأبادي ستين ألفاً و"لسان العرب" لابن منظور ثمانين ألفاً و"تاج العروس" للزبيدي مئة وعشرين ألفاً. غير ان اللافت كان غياب معجم متخصص بالمواد الجنسية العربية، مع أن معظم المعاجم والقواميس القديمة تضج بالمفردات والعبارات والأفعال العائدة الى الثقافة الجنسية، عطفاً على أن الحضارة العربية تحفل بالموضوعات الجنسية والشؤون الجنسية والمعاني والرموز والعبارات... في العام 1991 استطاع "مكتب التدقيق اللغوي" في مدينة طرابلس اللبنانية أن يستخلص ما سمّاه "المعجم الجنسي من لسان العرب" صدر عن دار جرّوس برس وقد ضمّ زهاء ألفين وثلاثمئة لفظة رتّبت وفق التسلسل الهجائي. وقد استعان الفريق، إضافة الى "لسان العرب"، بمعاجم عدة وكتب تراثية وأدبية ومنها: "القاموس المحيط" الفيروزأبادي و"المحكم والمخصّص" ابن سيدة، و"الصحاح" الجوهري و"أساس البلاغة" الزمخشري و"محاضرات الأدباء" الراغب الأصبهاني و"شقائق الأترنج في رقائق الغنج" السيوطي... وبدا هذا المعجم الطريف أقرب الى الصنيع العلميّ الجادّ الذي ينقّب في أصول المعاجم عن معجم شبه خفيّ بل عن معجم غير معلن. واستبق فريق المؤلفين أيّ ردّ فعل سلبي إزاء هذا المعجم الجديد وغير المألوف فجاء في المقدمة: "ولا ينفرنّ أحد مما في هذا المعجم من ألفاظ مقذعة واشارات صريحة... فإنما هي كلمات لها معانٍ متداولة ومدلولات متناقلة...". وعلّل المؤلفون عملهم بما سعى الإسلام الى تنظيمه في حياة المسلمين، والمقصود الغريزة الجنسية التي وضع لها ضوابط وأخرجها من كونها وظيفة آلية وعملاً شهوانياً صرفاً. في هذا الصدد جاء في "المقدمة": "مفردات الجنس في التشريع خير شاهد على هذا، إذ كان العلماء لا يستحيون من ذكر الأشياء بأسمائها". وعمد المؤلفون الى اسقاط أبيات الشعر التي تتحدث عن الفعل الجنسيّ، وما أكثرها في "ديوان" العرب وكذلك الأخبار والحكايات والنوادر الجنسية التي تحفل بها الكتب التراثية. ولم يكن حافزهم على مثل هذا السلوك إلا الحفاظ على علمية المعجم وبعده الثقافي. ولعلّ قارئ هذا المعجم قد يكتفي بما يقدّم اليه من شروح لغوية واشتقاقات وألفاظ ومعان لا ترافقها - مثلما درجت عليه المعاجم العربية - شواهد مستلّة من القصائد والكتب. فوظيفة هذا المعجم مدّ القارئ بما يحتاج اليه من شروح وايضاحات، لا أكثر. أما المعجم الجديد في هذا المضمار وعنوانه "القاموس الجنسي عند العرب" صدر حديثاً عن شركة رياض الريس، بيروت 2002 فهو يكمّل المعجم الأوّل مقدماً الى القارئ الكثير من الشواهد التي أغفلها الأوّل وهي مستلّة من المعاجم نفسها تقريباً التي اعتمدها المعجم السابق. ليس "القاموس" الذي وضعه علي عبدالحليم حمزة شبيهاً بالكتب الجنسية العربية الممنوعة من أمثال "الروض العاطر" و"رجوع الشيخ الى صباه" بل هو أقرب الى المرجع اللغوي - العلميّ المشفوع ببعض الأبيات والنوادر والحكايات الصغيرة. وتكمن فرادته في رحابته المعجمية، إذ يضمّ ما يتخطّى خمسة آلاف مادة مصنّفة وفق النظام الألفبائي ومقسّمة الى ثلاثة محاور: ما يتعلق بالرجل، ما يخصّ المرأة، وما يجمع بين الطرفين. لكن القاموس كان يحتاج الى مقدمة ضافية وعميقة ما دام معدّه قدّم رسالة دكتوراه في موضوع "لغة الجنس في التراث: لسان العرب نموذجاً". فالمقدمة بدت قصيرة ومبتسرة حيال الجهد الذي بذله الباحث في جمع الموادّ من معاجم عدة ومصادر، وفي ترتيبها وتصنيفها. يوضح معدّ "القاموس" أنّه كثيراً ما تساءل عن خلوّ اللغة العربية من معجم جنسيّ، مع أن "لغة الجنس ليست من المحرّمات، كما يتوهم البعض". وبدت لغة الجنس عند العرب "غزيرة فياضة" في نظره. والغزارة ترجع الى أسباب عدّة ومنها ما هو معروف وشائع: تعدّد القبائل العربية وتنوّع لغاتها، كثافة الحياة الجنسية عند العرب، طغيان التورية على لغة العامة، المعنى الحقيقي والمعنى المجازي للألفاظ التشبيه، الاستعارة والكناية، الأبعاد الجنسية التي تطاول اللغة والإنسان والمكان والزمان والحضارة... يكتشف القارئ أن "القاموس" يفيض حقاً بالمواد الجنسية مفرداتٍ وألفاظاً وعبارات وأفعالاً وكنايات ومجازات حتى ليتساءل أين كان يختبئ مثل هذا الكمّ الهائل والغنيّ والمتنوع! صحيح ان كثيراً من موادّ "القاموس" تكاد "تدرس" وتزول أو تشيخ تبعاً لعدم استخدامها في العصر الراهن ولوعورتها وصعوبتها وغربتها، لكنّ بعض الموادّ تدلّ بوضوح على عبقريّة اللغة العربية وعلى قدرتها على التكيّف مع احتياجات الإنسان وظروفه وأحاسيسه وأخلاقه وأمزجته... يكفي مثل هذه القواميس أن تصون هذه الذاكرة اللغوية التي تكاد العربية تنفرد بها، بل هذا "الوجدان" العميق الذي يساهم في صنع الذات الإنسانية. وكلما أوغل القارئ في استعادة هذه المواد والألفاظ والأفعال وسواها تذكّر قول الإمام الحافظ ابن قتيبة الدينوري الذي ورد في مقدمة "عيون الأخبار": "وإذا مرّ بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة... أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدّك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنّما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب". وإن كانت بعض اللغات تتباهى ببعض الكتب الجنسية التي عرفها تراثها فإنّ الحضارة العربية تستطيع أن تتباهى ليس فقط بلغتها وإنّما بثراء هذه اللغة التي كانت لغة الوحي ولغة الإنسان ولغة الحياة في ما تقتضي الحياة من تجارب وما تفترض من ظروف. وفعلاً ما أثرى اللغة العربية. اما الملاحظة التي يمكن ابداؤها فهي تتناول شمول "القاموس" المفردات والعبارات التي لا ترتبط مباشرة بالمادة الجنسية بل هي تدور حول الرجل او المرأة ككائنين انسانيين، روحاً وجسداً.